البَوْحُ بالمسَرّات

“لا شيء أكثر فناً من حب الناس”
فان غوخ

ستنتهي الحكاية، في ذهاب الطفل إلى النوم أو في شروق شمس شهرزاد، لكنها ستستمر على ألسنة الرواة وفي قصائد الشعراء وسرد الروائيين وألوان الرسامين بمضامين روحية وإنسانية وجمالية مختلفة. الحكاية تستدعي بوحا بالألوان والخطوط وتتطلّب إطارا مفترضا تستريح فيه وتعيش بساطتها ودهشتها. العملية الفنية المشغولة بسدى الحكاية ولحمة الألوان ستأخذنا أسرارها إلى ما خلف سطح اللوحة وسطح الحكاية، تأخذنا إلى مُتَع الحياة الحسية التي يلفها الصمت والرغبات وهي تشهد تبدّل دلالات الجسد المحتمي بالمقدس تارة والمشرق بالخصب أخرى والذاوي بالانتهاك ثالثة. اللوحة هنا أحد أشكال استمرار الحكاية التي استعارها الفنان وأعاد تشكيلها بالألوان والخطوط لإبراز الرغبات الخام إلى العَلن، فالروي لا يتصادم مع الرسم ما دامت العين تستريح في هدأة الحكي على سطح اللوحة. إن أعمال الفنان “سعد علي” وهي تعلن عن موضوعها وأسلوبها تأخذ بيدنا إلى عالم الحب والأمل وتقوي فينا الإحساس بالحياة وتجعلنا قادرين على تحمل أعبائها والمساهمة في بنائها واستمرارها من دون الحاجة إلى مفردات البطولة.
نحن نعرف الحكايات إلاّ أنّ الفنان “سعد علي” يرسمها وينثر عليها ألوان ألف عام من حضارة الصحراء والشمس. إنه فنان وليس حكواتيا، أدواته الخطوط والألوان والخشب، يبني بها عالمه في سياق تشكيلي يتضمن تجربته و موروثه للوصول إلى حكايته هو، حكاية الأمل والحب والبوح بالمسرّات على خشب عتيق تم التقاطه من الطرقات والأسواق القديمة بطلائه المتيبس وأقفاله الصدئة وندوب السنين على أليافه. الفنان الذي حاول فتح أقفال الذات الإنسانية المنحنية على أسرارها ورغباتها وخطاياها عبر خطوطه وألوانه، لم يكسر أقفال الشبابيك والأبواب العتيقة وأبقاها كما هي تحقق مساحتها وحضورها على سطح اللوحة وتزيد من ألفة وتلقائية الموضوع. فعلى سطوح هذه الأبواب والشبابيك العتيقة وبخلفية مشرقة من تدرّج الأحمر والأصفر والبرتقالي والأخضر تسترخي أجساد مولعة بالشمس والفاكهة والأسرار، بوجوه تعبيرية وسيقان لدنة قوية وأصابع طويلة تستقر على أطرافها الرغبات والمحرمات، وسط رموز دالة تختزل مضامين غنية بمفردات الوجود الإنساني وتكشف عن حضور محسوس للموروثات والثقافات الشرقية.
في عالمٍ محتدمٍ ومليء بالصراعات والأخبار المؤلمة لا بدّ أنّ يتذكّرَ أحد ما الحب، فهو باعث طيب للإبداع ومبرر عذب للحياة. الحب الذي يزودنا بالمتعة وتقليب أسئلة الوجود هو الموضوع الأساس، إضافة إلى موضوعات مشابهة، الذي تمتح منه لوحات الفنان “سعد علي” مادتها، نلمس ذلك عبر وجوه صامتة مبتهجة بالمحبة وأجساد مشتعلة بالرغبة وأرواح عاشقة طافحة بالغواية والحيوية والسهر توحي وكأنها قادمة من زمن آخر. فموضوع المحبة غائر في تفاصيل الحياة الإنسانية على مر العصور كقيمة ثابتة متنوّعة الألوان والأثواب، وأنّ موهبة الفنان تتجلى في قدرة مخيلته على تأمل القديم الرائع ومعالجته فنيا بأسلوب شكّلَ بمرور الأعوام بصمته وخصوصيته. إن الحكاية كلما ابتعدت في الماضي اقتربت أكثر من المخيلة وأشارت بعمق إلى القيم التي لا يمسها الصدأ، ولذلك نجد الفنان وإنْ لم يرسم الحب الراهن الذي أنهكته التفاصيل اليومية فإنّ أعماله، الحاملة قيمة البوح الإنساني، تحث عليه وتكشف عنه عبر أسلوب ومفردات أثارت الكثير من ردود الأفعال المفرطة. الشكل الإنساني الذي يحتل مركز اللوحة في أعمال الفنان والذي تم نحته من موروثات وحكايات وأساطير يُعنى بالغواية أكثر من عنايته بالملذات الحسية المباشرة، وعندما ننظر إلى الجسد من خلال فعل الحب يعطينا ذلك الإحساس المدوخ بالملذات، فموضوع الحب المنكشف على سطح اللوحة بألوان قوية وخطوط كثيرة الانحناء يوجّه العين والعقل تلقائيا ومنذ البداية إلى مواضع الجسد الحساسة ويجعلنا نصنع في مخيلتنا من الإيماءات الصغيرة ما لم يكنْ موجودا أصلا. حوار الحب الصامت بين الوجوه الفَرِحة والأجساد النَظِرة المبعثرة في المكان لا يخفي العذابات الروحية والآلام الإنسانية التي تطلي الوجوه، فالحب لا يأتي منفصلا عن مشاكل الإنسان في اللوحة وفي الحياة على حد سواء لأنه سيتبلد ويخسر الكثير من روعته وإنسانيته. إن تجربة “سعد علي” المليئة بالحب والأمل تحتوي كذلك على المؤلم والمحزن والمخيف، ولقد سبق له أن عانى وهاجر ووقف طويلا على حدود الموت في ظروفٍ لا يعرفها كثيرون ولكنه انتهى إلى دارة الحب وفتح أبوابها إلى الأبد، إلى المطلق والإنساني والجميل. فمن أتعبته الحياة وسننت مشاعره المعاناة يكون أكثرنا قربا من مفردات الحب والأمل والفرج.

* * *

الحب والألوان كلاهما يصنع الرعشة، وعندما نحدق بالجسد المستلقي على امتداد البصر في سرير اللوحة، بنتوءاته وتكوراته، فإننا نسمعه ونتأمله لكننا لا نفهم شيئا، فالدهشة ستتكفل بكل شيء. إنّ تأثير الحب الساكن قلوب نساء الفنان، العاشقات العاريات القادمات من مدن ألف ليلة وليلة، ليس صافيا ونقيا ومعزولا بل تتناثر على جانبيه مفردات الحسد والغيرة والخيانة والرغبة والخطيئة والذكريات، بدرجات لونية تتناغم مع الكتلة. وهذه الصفات التي عُلِّق بأطرافها الكثير من الأوحال هي من لوازم الحب وتزيد من الدلالة الانفعالية للموضوع، فمثلما ينبجس عمق موضوعة المحبة من سطح اللوحة بعجينة الأحمر والأصفر والبرتقالي والأبيض فإنّ طبقات الأصفر تُظهِره الغيرة، وحضور الأسرار والذكريات يمن علينا بالأزرق والأخضر. لحاله لا يشرق اللون، فهو جزء من عالم اللوحة المحتفي بالإنساني والجميل والمتناقض الذي يشكل مناخ اللوحة. اللون يكون أكثر قيمة عندما يستطيع، عبر الموضوع، إيصال أحاسيسه وطاقته إلينا.
تردّدَ مرارا الكلام عن ألوان الحب الحارة التي تشيع في أعمال الفنان على الرغم مِنْ أنّ حرارة اللون، أو برودته، لا يعود فقط إلى اللون والدرجات اللونية بل أيضا إلى طريقة وضعه الشكلي في اللوحة ومزاج الفنان، إضافة إلى أن اللون في علاقته بالموضوع قد تتغير درجات برودته وحرارته ويتحول إلى حالة روحية صرف. صحيح أن الألوان القوية هي من يجذب العين في البداية، وصحيح أيضا أن موضوعات “سعد علي” تستدعي الدفء والحركة وسيادة الألوان التي أنضجتها الشمس والرغبات المشتعلة، الأحمر والأصفر والبرتقالي، إلاّ إنّ لوحته ليست لوحة لون واحد، فلا اللون ثابت الخصائص ولا الحب ثابت المشاعر، يتجلى ذلك في وجود الكثير من شخوصه بالأزرق والأخضر والرصاصي لكن من دون الابتعاد عن الموضوعة الأساسية للوحة. تنوّع الألوان يتكشف لنا تدريجيا في تجاور الأزرق والأخضر والرصاصي في صحن الفاكهة، وتبادل الأبيض والأسود في فسحة صندوق الذكريات على أرضية اللوحة كما نجد تنوّعه في عناصر تشكيلية كالوشم والحيوانات والشموع والأقمار. ففي تجربة الفنان المعروفة بالمثابرة والاستمرار والحضور ليس غريبا أن تغيّر المفردات أمكنتها وتفقد الألوان أفضليتها ولن يبقى البرتقالي والأحمر لوحدهما يشعلان الحب ويغازلان العيون، فمرة يحضر الأزرق للإعلان عن ذلك ومرة يتجلى الأخضر للتذكير به. اللون عنده عجينة من شمس وعشق وأغاني وذكريات يضعها مباشرة على عتق الخشب محملة بمشاعره وأخيلته وموروثه قد يتدفق فيها الأحمر أو يغرق بأسراره الأزرق، إلاّ أننا لا يمكننا التعميم بالقول إنّ هذه الأعمال دافئة وإنّ تلك الأعمال باردة، وهذه الأعمال عن المحبة الخالصة وتلك لا، ففي النهاية موضوع اللوحة يؤثر كثيرا في حساسية الفنان وفي تحويل عجينة الألوان إلى مادة تصويرية توصل الدلالة المبتغاة. اللوحة سبيكة من خطوط وألوان ومواد وأفكار تعرض علينا شخوصها مشبعة بالحياة والتناقضات والرغبات الدفينة، وتتداخل على سطحها الكثير من الخطوط والألوان والانفعالات التي لا يجدي نفعا تعميمها وربطها بلون واحد على الرغم من الطاقة الداخلية التي يمتلكها هذا اللون. الألوان تفرحنا وتحزننا وتُرطّب مخيلتنا بمدها في العلن الخيوط بين “المحرمات” إلا أنها لا تعقلن الحكاية أو تحددها بقانون، إنها تحتفل بالإنساني والجميل وتدفع إلى السطح بالمخبوء والمدهش.
مِنَ الفنانين مَنْ تقدح مخيلته بحضور الورق وآخر بملمس الحجر وثالث بالتواء الحديد، أما الفنان “سعد علي” فقد عُرِفَ بلوحاته التي تُنَفذْ بزيت الألوان على خشب الأبواب والشبابيك القديمة التي يلتقطها من النفايات والأسواق الشعبية، مزينة بالأقفال الصدئة وثقوب المسامير الواضحة. مادة الخشب التي تثير الصور والأفكار والذكريات عند الفنان هي مادة قوية ومقاومة للتلف لكنها ليست جامدة في علاقتها بالعملية الفنية وتشع ألفة وبساطة، وأن الأحاسيس والنداءات التي ينقلها شكل الخشب العتيق ورائحته وملمسه وما تركته عليه الأعوام من ثقوب وخطوط وتصدعات تسهم في صنع الإيحاء والموضوع وفي توزيع الشخوص على مساحة الحكاية المحصورة بإطار قوي. ومَنْ عرف الفنان لمس لديه تأثرا بمفردات الفن المعماري وإحساس خاص بمادة الخشب حتى أنه يعرف ويرى من بعيد الأبواب والشبابيك العتيقة الملقيّة على أطراف الشوارع أو عند البيوت المعاد تعميرها، وإن كانت تصلح للعمل أم لا. فهو ما أن يمسك الخشبة العتيقة حتى يبدأ الموضوع في مخيلته بالتشكّل وحجم التكوين على السطح بالتحدد والمساحات الميتة بالتراجع، فخشبة باب الكنيسة المشغولة بالأقواس ودقة الصنعة ومفردات القداسة تختلف وظيفيا وجماليا عن تلك المزينة بموتيفات شعبية في حي قديم، والخشبة التي عمرها مائة عام لها رائحة وملمس لا نجدهما في تلك المصنوعة توا من النشارة المضغوطة، سينعكس ذلك على طبيعة الموضوع وعنوانه وتوزيع الشخوص ومناخ اللوحة، وليس مصادفة أن يطلق الفنان على مشروعه الفني أسم “أبواب الفرج” وعلى معارضه ولوحاته عناوين فرعية متناغمة من مثل ” أبواب المحبة، صندوق الدنيا، نافذة المحبة”. الخشب العتيق والألوان القوية والمواضيع الشرقية تضفي على العملية الفنية خصوصية وقدرة تعبيرية وحسية تتكثف بفضل رقة الموضوع وتكورات الجسد؛ أيْ أنّ موضوعات الحب والخطيئة و”المحرمات” التي ورثناها عن أبينا آدم يتضاعف سحرها عندما ترتبط بألفة الخشب العتيق وزيت الألوان. فالزيت هو روح الخشب وضوئه وناسج خيوط حكايته التي تشعرنا برغبة دافئة للاقتراب من الموروث وإزاحة ركام التحليلات التي أربكت تلقائية البدايات.
الرسم على الخشب العتيق لا يبرز عمقه سوى الزيت. هذه المعلومة التي لا تخلو من الصحة دفعت إلى الظل والنسيان الكثير من أعمال الفنان التي نفذها بالفحم والحبر والألوان المائية على خامات متنوعة كالورق والكانفاس والجدران، أعمال اجتماعية وسياسية نُفذت في فترات سابقة غلب عليها الطابع الواقعي بقيت حبيسة الأماكن والمنافي التي أوت الفنان في رحلته الطويلة. وهي أعمال وتجارب توثق المهم من تاريخ الصراعات السياسية بالعراق في الربع الأخير من القرن الماضي وتضئ بعض من جوانب التجربة الفنية لـ”سعد علي” من بينها غياب الألوان الحارة، الأحمر والأصفر والبرتقالي، وحضور البني والرصاصي والأزرق. إنّنا لم يحدث أن شاهدنا الفنان وقد استخدم الألوان المائية والأحبار والأكريل مع الخشب كما استخدم الزيت مع الخشب، اللون يسير مع اللوحة، يجسد الطبيعة تارة وأخرى ينشأ الحكي في كشفه عن المخبوء بين ثنايا الجسد واللسان، أنتج ذلك لوحات تفرحنا تارة وأخرى تغازلنا وتوهمنا بحلول وخلاصات قد لا تكون موجودة إلا في عيون رؤوسنا. أليس الوهم من صنّاع المتعة كذلك في لحظة وقوفنا أمام اللوحة ؟.
* * *

واقعية”سعد علي”المبنية على الحكاية والموروث تغترف ماء موضوعاتها من ينابيع متنوّعة، رافدينية وفارسية وهندية وأوربية، تفور بالشعر والأسطورة والحكاية والتصوف. فما أنْ تلتقط عين الفنان مفردة “صحن فاكهة، قط، طائر، قمر، شمعة، رقعة شطرنج، حالة جسدية” حتى تنشغل أصابعه بعشرات التخطيطات والتجارب والخامات للتشبّع بدلالات المفردة الجديدة، ويمكن تلمس ذلك في خطوطه القوية المنسابة التي تحدد طبيعة الحالة الانفعالية. فدلالة التفاحة الموجودة على الطاولة لا تشبه دلالة محمولاتها الرمزية عندما تكون في يد أنثى محتشدة بالرغبة يكاد عريها المضيء أن يأتي بالصباح فتنتهي الحكاية. ولكن قبل أن تتحول اليد والأصابع إلى مفردة مكتنزة بدلالات بيولوجية وثقافية في اللوحة تُرى كم من الساعات والأيام أهدرها الرسام في النظر إلى أصابع أمه وأخواته وجيرانه، وكم من الأيام وقف في المتاحف الأوربية مبحرا في حركة اليد وعلاقاتها بحركة الجسد، وماذا تفعل الأصابع الطويلة بنظرة العيون، وكم عضلة ستُحَرك في الرقبة والكتف. إن التأمل والتمرّن ساهما بصنع قيمة الجذب التي تتمتع بهما اليد والأصابع في لوحة المحبة والفرج، ونظن أن التأمل الروحي والمران الجسدي من بين الأسباب التي جعلت الفنان في الأعوام الأخيرة يشتغل مباشرة على التيلة وخشبة الباب من دون تخطيط أولي “سكيتش” خصوصا وإنّ الفنان يميل بطبيعته إلى التلقائية والاستمرارية بالعمل ويرى أن التوقف عن الرسم والعودة إليه بعد فترات زمنية متكررة قد يُضعف فكرة وموضوع اللوحة ويُفقدها شحنتها الروحية الطازجة، الأمر الذي نلمسه في حديثه عن “السكيتش” على أنه لوحة يمكن تعليقها على جدار. فإعادة رسم اللوحة، حذف أو إضافة، لا يأتي على الدوام لصالح اللوحة وقد لا يوصلها إلى الكمال الذي ينشده الفنان .
الحكاية عند الفنان أشبه بـ”موديل” استحوذ على اهتمامه ثم سرعان ما تغلغل وتشعب في عوالمه ووضع شيئا من ذاته في سياقه، وهو ما يعطي الانطباع بأننا نشاهد ملمحا ونسمع فصلا يجب علينا أكماله، ولذلك فإن الاقتراب من مفردات ودلالات الرموز قد يضيء الحكاية ويساعد في الفهم الكلي للوحة ويزيد من مساحة المتعة. الحكاية هي الموديل الأطول عمرا، وعندما يستعيرها الفنان من ماضي الثقافات ويضمنها أفكاره ومشاعره ومخاوفه ستتحول إلى حكايته هو، تتحول فيها الاستعارة إلى مفردة من مفردات اللوحة وإلى رمز جديد يحمل دلالة أخرى كما رأينا في اليد التي تشير إلى الرغبة تارة وأخرى تختصر الجسد، ويمكن أن نلمسه في الوجوه السومرية المشرقة بالحب والصمت والتي تبدو كأنها قفزت توا من الشباك إلى أرضية اللوحة. كما هو معروف أن أسئلة الحب تتركز أولا في الوجه أكثر من أي مكان آخر، ثم تنتشر في الكتلة. الوجه يتمتع بنظرات ومزايا تعكس معاناة وحاجات الداخل، نراه في وجوه الفنان الممتلئة بالحيوية والحب والسهر والحكي وهي تحرك فينا الانفعال العاطفي والذكريات وتدفعنا إلى تخيّل الوجوه الخارجة من صندوق الذاكرة وكأنها تنوّعا للجسد المحتشد في السرير وتذكّره بالماضي والعشاق والخيانات. وعلى الرغم من تقارب الوجوه والتصاق الأجساد وتشابك الأيدي والعيون والسيقان كأغصان سدرة بلّلها الصباح، إلا أننا لا نشهد عملية جنسية أو قبلة ممتلئة بالندى. ففي انهمار الألوان وتداخل الخطوط واشتباك الأطراف تمتد خيوط الرغبة بين اللوحة وعيوننا، بين المخيلة والواقع، يبدو فيها العري هو الجاذب الأكبر للعين، وحين ننظر إلى منحدر الساقين ومواطن الدفء والعيون والفاكهة المحرمة وقمر السهارى لا يمكننا الامتناع عن الانجذاب إلى دائرة الغواية السحرية وتصنيع العلاقة بين الأطراف والعناصر. للعري الكثير مما يخفيه ويشعل مخيلتنا، وغموض وشم بلونيّ الأخضر والرصاصي على سُرّة أنثى في سرير قديم سيمارس تفعيل متعة البصر عندنا في اللحظة التي نكون فيها نحن مبهورين ومهيئين لاستقبال الجميل والإنساني والمجرد في خطوط الوشم. الاستعارة هنا هي حزمة معارف وتجارب ومعاناة تحضر للإنشاد في جوقة العشاق والحساد والأقمار والشموع والأسرار الموزعة على سطح اللوحة، صانعة بذلك حركة داخلية من خطوط وألوان وسرد تُظهر البؤرة لا تضعفها. الفنان يهتم بالتشكيل أكثر من اهتمامه بالحكاية، ساعده ذلك في أن يمنح مخلوقاته مكانا دالا على طبيعة الرمز، فتوهج أطباق الفاكهة على الطاولة بين الأصفر والأخضر والأزرق والذي سبق للرسامين العراقيين القدامى أن استخدموه يمد حكاية الحب بشحنات رمزية إضافية تزيد من مساحة الغواية المحرمة في الجسد، الكتلة المضاءة بألوان قوية وخطوط قوية الاستدارة. وخروج العشاق القدامى من صندوق الماضي بوجوه مشحونة بأصفر الحسد والغيرة والشك في وسط اللوحة يزيد من شكوك المشاهد الراغب في معرفة المخبوء من الكلام، فالروح الهش يفرحه الحسد ويكشفه الأصفر. وقط أسود حاد الملامح مؤنس في العزلة ومستمع من الطراز الأول لا يظهر في كل اللوحات ولا يفشي سرا ولا يشكك بمشاعر الحب الكاذب ولا يعد الأقنعة التي يلبسها العشاق، فابتسامة السخرية لا تبان على وجوه الحيوانات. إن ميل الفنان أحيانا إلى أنسنة قططه وإخراجها عن صمتها ووضع التعبيرات على وجهها ترفد من بعيد وبشكل خفي موضوعة اللوحة وما تستدعيه من غيرة وأنانية وتلصص. من المفردات الأخرى التي ترطب حكايات الليل تسلق الأقمار والأهلة خلفية يسار اللوحة لتعميق دلالة السهر والسمر لشخوص اللوحة، وتهادي الأصابع رخوة لدنة ممسكة، بأيروتيكية ساحرة، بحلمٍ مضيء غائر في القدم يكشف عن حبة كرز حمراء أو تفاحة خضراء في مركز اللوحة يزيد من سخونة اللذة والخطيئة على صحراء السرير الممتلئة بالجسد. إن تكثيف العلاقة بين المفردات التشكيلية يبني، مع السرد، طبقات الزمن في فضاء مسطح لإبراز ملامح الشخص ومعاناته الداخلية وأقنعته الخارجية، ومبينا أن المفردات التشكيلية في اللوحة لم تكن هامشيةً أو عشوائية لغرض إشغال المكان بل هي عملية تأليفية تحوّلت دلالاتها في مصهر الفنان ومخيلته إلى عناصر مكتفية بذاتها سرديا ولونيا، يساهم حضورها في انسجام البنية العضوية للأثر. إلاّ أنّ جمالية اللوحة هنا ليست فقط بالعناصر المار ذكرها بل وفي التأثير الذي يتركه توزيعها وتوظيفها على عين المشاهد. فعندما نجمع خيوط الاستعارة، بين العين والذاكرة، سندخل عالم اللوحة حيث الكل :القمر والشمعة والسرير والعشيق القديم والتفاحة، محتف بموضوعة الجسد الذي لا حد له ومنشغل بفكرة الحب القديمة. مفردات تأخذ بيد المشاهد وعينيه إلى بهاء الألوان وترف المتعة والأسرار ولذة المشاركة ليكشف بدوره عن خبايا ذاته هو ويروي بطريقته حكايات توهم هروبها من أغلفة الكتب إلى سطح اللوحة، ويخبئ بدوره الضغينة والذكريات في صناديق الماضي ويضع الحسد في زوايا العيون ويُشبع الرغبة من أرداف الجسد المستلقي على بلل الفِراش، قبل أن يغمض عينيه بانتظار صباح آخر.
* * *
إنّ الحضور الكبير للرموز في لوحة “سعد علي” وتوظيفها يعلنان عن نزعة غنائية تعكس عالم الحب والأمل الذي أصبح موضوع الفنان الأثير لكننا لا نستطيع الحديث عن الأسباب التي تقف خلف قدوم اللوحة ومتى تكون لحظة انبعاثها مواتية إن كان من الفراغ والمصادفة وضغوطات السوق أو من سابق تصميم وتخطيط أو من قصيدة شعر أو من حكاية أو من مثل شعبي، فللوحة حياتها وديناميكيتها الخاصة التي تقترح فيها لحظة البدء على مخيلة الفنان. اللوحة سر من أسرار الفنان وتبقى آخر تلويحة له قبل الذهاب إلى النوم، فقد يكون لخشبة الباب الملقية عند باب الكنيسة دورا في طبيعة الموضوع وأسلوب تنفيذه، وقد تكون رحلة أو حادثة بمثابة شرارة لمشروع جميل. كانت أغنية قديمة لسيدة الغناء العربي “أم كلثوم” نسمعها على مدى أعوام طوال وقفت، حسب قول الفنان، خلف الكثير من لوحاته. الحب والهجر والذكريات وصورة الحبيب المستعادة في مطولات “الست” هي نفسها قصص أهل العشق في الليالي ونجد إيحاء منها في لوحة سعد علي. فالتناغم بين الصوت وآلات العزف وبين الصور والمعاني التي تنطوي عليها كلمات الأغاني الغائرة بالعشق والطرب الأصيل التي تترك شعورا إيجابيا، أو سلبيا، يعمق موضوع اللوحة ويأخذ بفرشاة الفنان ليزيد من طبقات اللون لإبراز المحمول الرمزي لحالات العشق والشوق والهجر. إن وضع الأحمر والبرتقالي والأصفر على خد العشق يضيء الشخصية من داخلها، ولكنه قد لا يوفق على الدوام في الوصول إلى حالة الوجد والانفعال، فالرسام ليس نبيا، ويتأثر بمحيطه وتتكالب عليه الذكريات ويطيب له أحيانا اللعب مع الألوان العارف بأسرارها، بكل ما في مفردة اللعب من معنى لينتج أعمالا غير متوقعة ومفاجئة للفنان والمشاهد على حد سواء. مخلوقات الفنان العاشقة والقلقة صُورت بحب وتعاطف على سطح اللوحة وكان “سعد علي” كثيرا ما يقف أمام لوحته المنجزة توا يردد جملة أثيرة لديه ” أنظر إليها .. أنها حليب” كنّا نلمس في قوله نبضات قلب عاشق وذاكرة حية عن مدينة منسية يقسم أهلها بالحليب والخبز لقدسيتهما وبساطتهما في الحياة اليومية. هذا الحب النافر من فرشاة الفنان وذاكرته ومخيلته سبق وأن مس حياة الفنان، فتصوير العام لا يخفي ذاتية المصور تجلى كذلك في ظهور نساءه اللواتي عرفهن في حياته ورحلاته كرموز وانفعالات في اللوحة. لقد رسم ملمح من حياتهن ولم يرسم سيرتهن الذاتية.
لا ندري ما السر الذي يرتاح خلف الألوان والخطوط كي يبقي لوحة الحب ماثلة في الذاكرة أطول منها من لحظة حب حقيقية من لحم ودم وعواطف، فهذا السر قد يضعنا وجها لوجه أمام فقر تجاربنا العاطفية وبلادة مخيلتنا أمام مخيلة اللوحة، ويجعلنا نعلق أسباب ذلك على حاجتنا للحب الحقيقي تارة وأخرى على الإيهام الفني الذي تمارسه اللوحة على أرواحنا الطيبة. الحب من أكثر المفردات دفئا وحضورا وتأثيرا في حياة الإنسان، وكلما زادت تعقيدات الحياة اليومية زادت حاجة الأرواح الطيبة توقا إليه وإلى الأمل وفتح أبواب المودة والفرج، وهي بالذات الثيمات التي ارتكز عليها مشروع الفنان سعد علي عبر أربعة عقود من العمل والإبداع والبحث والترحّل. فالجمالي عندما يحيط باليومي والبسيط، وحتى الوضيع أحيانا، فأنه يخفف من ظلال عتمته ويجعله مقبولا، يسترخي عنده الراكض طوال النهار خلف قوت يومه. الوقوف أمام لوحة المحبة والأمل وأبواب الفرج يرخي الجسد ويريح العقل ويحرك مخيلة المشاهد ويشعره بالحاجة إلى قارئة كف تُبَصره بخطوط قلبه وتكذب عليه وتروي له حكايات ألف ليلة وليلة وتفتح له أبوابه الداخلية التي أضاع مفاتيحها في الصراعات ومشاغل الحياة اليومية. أما في البلدان التي طحنتها الحروب على امتداد تاريخها الحديث كالعراق وفلسطين ولبنان والسودان وأفغانستان فغالبا ما يكون الحديث عن موضوعات ورسمات المحبة شكلا من أشكال البطر والاستفزاز والسخرية، الأمر الذي دعا المسؤولين والمعنيين بالعراق وفي أكثر من مناسبة للتنبيه إلى مخاطر ذلك وإلى إقامة الندوات والأمسيات لمناقشة ظاهرة الحزن المنتشرة بشكل غريب وملفت في الغناء والأزياء والقصائد والأعياد والمناسبات الدينية. فمع شعارات النصر والثأر وعلى إيقاع أغاني الحزن والشجن وبكائيات الطوائف المنسية وفي ألوان الملابس السود التي يلبسها الأطفال والنساء والرجال في الشوارع الخربة، سيكون الحديث عن ألوان الحب والأمل أشبه بالنفخ في قربة مثقوبة. نحن هنا لا نتحدث عن المواطن العادي فقط بل هي ظاهرة اجتماعية ـ ثقافية موجودة في الشارع وعند النخب المتعلمة كذلك وتتجلى في لوحات الكثير من الفنانين التشكيليين التي تميل إلى الحزن والمعاناة، بسبب ظروف حياتهم القاسية، أكثر من ميلها إلى الأمل والفرح والمتعة والزينة. في مثل هذا الجو من المفاهيم السائدة التي ترى عمقا في المعاناة وسطحية في الجمال سيجد الفنان الذي هاجر من بلده فترات زمنية طويلة طرق فيها موضوعات وأساليب وتجارب وعواصم، سيجد صعوبات كثيرة في اختراق قشرة الحزن المتوارثة وسوف تكون لوحته عن الحب والأمل غريبة وغير مرحب بها مهما كان التعبير عنها جيدا. ونحن هنا لا نربط الرائع والجميل بطبيعة الموضوع فقط فليس كل مواضيع الحب رائعة ومواضيع الحزن ليست رائعة، فالمعاناة لا تخلو من متعة وإن قلّ محصول الجمال، والحب نفسه لا يخلو من معاناة شفيفة ووردية تختلف عن تلك الدامية والبطولية، فخلف الرائع والجميل يقرفص أكثر من سبب قد نلتقط منه ما نستطيع وقد لا نوفق في ذلك. اللوحة تعرض موضوعها علينا لتجعلنا أكثر متعة وإنسانية بغض النظر عن طبيعة الموضوع، ولا يوجد ما يدعم فكرة أن لوحة الحب قاصرة النظر ولوحة المعاناة عميقة النظر لأن هذا يجرنا إلى افتراض “سطحية” المشاهد الذي يتمتع بلوحة الحب والجمال و”عمق” المشاهد الذي يتمتع بلوحة المعاناة والصراع، وهو افتراض ليس له ما يدعمه. وفي نظرة سريعة على تاريخ الفن لا نجده غريبا “أحيانا” أن يرسم الفنان عن الجمال والحب في ظروف صعبة ومؤلمة، فلقد كان “بيكاسو” في ظروف الحرب الأهلية الأسبانية يرسم الأزهار والنساء في الوقت الذي كان يشتغل فيه على جداريته المشهورة “جورنيكا” التي تتحدث عن مجزرة. علينا أن نشير هنا إلى المساحة الغامضة بين الفنان الذي يفرج عن نفسه وبين الفنان الذي يفجر ما في نفسه، فالفرق ليس في تبادل مواقع حرفي ” الراء والجيم” لكنه فرقا يشير إلى طبيعة الإبداع المنشغل بردود الأفعال السريعة، وبين الإبداع المنشغل بأسئلة الوجود العميقة التي لم تكمل الإنسانية بعد الإجابة عنها.
* * *

الحداثة قد تتصادم ولكنها لا تلغي كليا الثقافات القديمة والموروثات المحلية، وسبق لها – للحداثة – أن لجأت في مراحل أزماتها وتخلخل يقينياتها إلى الاستعانة بالثقافات والموروثات لإنتاج ماضي جديد يضمن استمرارها وحضورها، تجلى في استفادة الحداثة من التراكم المعرفي الإنساني وفي تأثر أشهر مبدعيها بالفنون القديمة وفي انبهارهم بعملية التقاط المدهش الذي يمارسه الأفريقي مع منحوتاته والأسيوي مع موروثاته القديمة. إنّ الوقوفَ أمام لوحة “سعد علي” يشعرنا منذ البداية بأنها تخبئ أفكارا وموروثات عن الحب والأمل وتود إيصالها لنا عبر حزمة من الخطوط والألوان والأفكار والرموز والتقنيات الحديثة لإبراز الكتلة التي تقع في واجهة اللوحة مضاءة بألوان قوية. كتلة تتكئ على خلفية بتكنيك عُرِفت بها لوحاته من عجينة ألوان قوية ومتدرجة تحافظ على مناخ اللوحة، إلى جانب عناصر تشكيلية ” الصندوق، المشط، رقعة الشطرنج، الشموع، الأقمار،الوجوه، المرايا، الحيوانات، صحن الفاكهة” تفعل فعل التوازن في اللوحة. الكتلة “الجسد” في موضوعة المحبة هي تجسيد للعلاقة بين أثنين حتى في حضور أحدهما من دون الآخر، وهي كذلك من مرجعيات ثقافية متنوّعة نراها في بروفيل الوجه والعيون السومرية الواسعة التي تأوي الرغبة وتختزل الدلالات، ونشاهدها في السيقان الهندية اللينة الانحناء والتي تكشف عن قوة وصلابة مدهشين، وفي تمطي الأصابع وتكورات النهد والبطن. فالعين المتطلعة إلى الحبيب والتي يزيد من وسعها الانفعال الروحي تكشف عن عشق امرأة اعتادت على الحكي والسهر والأسرار، عين مفتوحة على الدوام لتزيد من انكشاف ضوء اللوحة، وإن حدث وظهرت العين مغمضة أو مغطاة بشال فإن ذلك سيكون شفافا ويعطي الإحساس بانفتاح العين. مرّة غطى ألأزرق مساحة العين للدلالة على الهروب من ضوء النهار وصخبه وبحثا عن التأمل وصمت الكلام إلا أننا نشعر بوجودها، ولا نستطيع تخيل الوجه في لوحة “سعد علي” من دون العين الواسعة والثابتة النظرات التي توضّح وتعبّر وتفرح وتتألم وتروي الكثير من الرغبات المطمورة في الذات الإنسانية، وفي قناع الكذب الذي تلبسه الوجوه تحضر العيون وحتى خلف الكتلة غالبا ما تكون هناك عين تسهر وقمر أبيض يضئ الوجه في انزلاقه صوب الصباح. هناك العديد من الفنانين تأثروا بالسومريات أو تناولوا موضوعات الحب والليالي وآخرون رسموا على الخشب وتأثروا بالفنون الهندية والفارسية، إلا أن هذا قد تم جمعه وصهره في مصهر الفنان “سعد علي” المتضمن روحه ومخيلته ومعاناته وتجاربه، أنتج بالنهاية لوحة لها رؤيتها وأسلوبها ومفرداتها التي شكلت بصمته.

* * *
إن تجربة الفنان سعد علي الطويلة والمتنوّعة لا يجدي معها نفعا الحديث عن لوحة عراقية، بالمعنى الدارج للكلمة، على الرغم من أن نتاجه يضج بالمواضيع والمفردات التي يمكن إرجاعها إلى حضارة وادي الرافدين وحضارات لاحقة من العصور الإسلامية الأولى بالعراق. الموضوع والخصوصية ليسا كافيين لنحت المصطلح، وحتى استعارة مفردات ورموز من الثقافات الأخرى لا تحدد هوية اللوحة ولقد سبق لفنانين أوربيين أن وضعوا إكسسوارات شرقية في لوحاتهم” حرف عربي، قبة، هلال، نقاب” ولكنهم لم يتحدثوا عن هوية اللوحة لإدراكهم سطحية ذلك. ونحن ما زلنا نتذكر شعار “الهوية الفنية” الذي ردده كثيرون بالعراق في النصف الثاني من القرن العشرين عندما تحولت الكثير من الشعارات السياسية إلى مصطلحات فنية وثقافية لم تعمر طويلا بعد أن دخلت أنفاقا وصراعات ليس لها علاقة مباشرة بالضرورات الفنية والثقافية. صحيح أن ميل الفنان إلى تعويض المكان الأول الذي أخرج منه عنوة قد بقي جاثما في لا وعيه ومبثوثا في خطوطه وألوانه، نستطيع رؤيته في كثير من أعماله الواقعية ذات المنحى الاجتماعي الذي أخذه عن أساتذته والذي طبع نتاج النصف الثاني من القرن العشرين عندما لبست الثقافة العراقية أثواب الأيدلوجيات الضيقة والخانقة لأي تطلعات وإبداعات خارج دائرة الحريات التي رسمتها لهم تلك الأيدلوجيات. إلا أن موضوعات الفنان “سعد علي” المنشغلة بأسئلة الوجود الإنساني في الحياة والموت والحب والخصب أعطت ظهرها في الأعوام الأخيرة للصراعات الاجتماعية والسياسية المباشرة وخلت لوحاته الأخيرة من موضوعات وأمكنة ومناخات عراقية خاصة بالقياس إلى زملائه من الفنانين العراقيين المتواجدين في المنفى. وبدت لوحاته خالية من الثوريات ومفردات الإصلاح، ولا تستأنس بالشيوخ ورجال الدين، واكتفت بالإنساني والجميل والممتع. إنها لوحة بموضوع شرقيّ قديم وبرموز رافدينية وفارسية وهندية ويابانية وبتقنيات غربية لا يمكن أن ننسبها فقط إلى جنسية الفنان وشوارع طفولته، فاللوحة كالموسيقى أوسع من لغة أو هوية. إنّ السفر والدراسة وتراكم التجارب وحضور الموروث في لوحة الفنان “سعد علي” برؤية مختلفة وتكنيك حديث يستوعب المستجدات البصرية والإلكترونية، أبعده عن موضوعاته التي تحاكي الواقع وتوحي إليه والتي بدأ بها مشواره الفني في مدينتي الديوانية وبغداد العراقيتين، وفتح له أبواب المحبة والأمل. وقد يكون ذلك من ضمن الأسباب التي أدت إلى تجاهل الفنان في المنتديات الرسمية والسياسية، وتكوين تصور يوحي بأنه غير منشغل بما يحدث بالعراق مع أن الحقيقة عكس ذلك. لقد أثبتت التجارب الفنية والبعثات الدراسية إن الفنون والثقافات الأوربية تتخادم ولا تتصادم مع التراثات والمحليات البعيدة عن المركز، ونستطيع القول أن الكثير من الفنانين قد تعمّق إحساسهم بأوطانهم وبالشرق بعد أن هاجروا إلى الغرب، وأصبحوا يمتلكون أساليب ورؤى فنية شخصية وأعمال ذات مواصفات فنية حديثة وضعت أسماءهم بجدارة إلى جانب أسماء عالمية في أشهر صالات العرض، ونرى في اقتناء الصالون الأحمر ” Salon Rouge ” بأمستردام أعمال الفنان، وفي وضع أسمه “سعد علي” السابع في ترتيب قائمة كَاليري “كوبرا ” المعلقة على بابه في العاصمة أمستردام بعد كارل أبل، كونستانت، رينيه فان لوست، كونييه، له أكثر من مغزى.

* * *

إنّ الطبيعة الاختزالية التي يتمتع بها البعض في تعامله مع الإبداع، الثقافي والسياسي والاجتماعي، سهلت النظر إلى مجموع لوحات “سعد علي” المحتشدة بالرموز والاستعارات والدلالات على أنها لوحة واحدة ومناخ واحد حاضر في ذاكرة الفنان ولا يحتاج الكثير من الجهد في استعادته وتنفيذه، وبالتالي فإنها لوحة بسيطة وموضوعها سطحي ولا توجد ضرورة للولوج إلى التفاصيل السهلة والمعروفة والمكررة، وكأن اللوحة فقط بموضوعها وليس بتكوينها وبناءها الشكلي وقوة مخيلتها. هذا التسرّع أدى إلى الحكم بعمومية على موضوعات الحب بأنها متشابهة متناسين أن موضوعات الحرب متشابهة “قتال وسلاح ومعاناة”وأن موضوعات الطبيعة كذلك متشابهة “ماء وسماء وأشجار” ولكن التأمل في التفاصيل والمفردات وأسلوب المعالجة هو الذي يحدد قيمة اللوحة وخصوصية الفنان المبدع. التسرّع حّجب عنهم معلومة أن اللوحة التي تستلهم موضوعاتها وشخوصها من الحكاية والموروث وأسئلة البدايات الأولى غالبا ما يزودها ذلك بإحساس البساطة ويعطيها الطابع الشعبي الذي سبق لكثير من الفنانين العراقيين أن تمنوه للوحتهم وأرادوا لها أن تكون أشبه بأغنية شعبية يرددها الجميع. فإن كانت اللوحة مفرطة في البساطة والبدائية فلقد سبق لأسئلة الوجود المعبرة عن الحب والحياة والموت إن كانت كذلك. البساطة توحي بالعمق مثلما يوحي الاكتمال بالغموض، وإن تأويل البسيط يستدعي أدوات وألوان قادرة على الوصول إلى عمق الموضوع والكشف عن دلالته، خصوصا إذا كان موضوع اللوحة مرتبط بأسئلة الوجود في الحياة والموت والحب والخصب. إنّ الأحكام السريعة وغير المبالية التي تهدف، بوعي أو بدونه، إلى إضعاف القيمة الفنية للعمل وإلى التقليل من قيمة الجهد الذي يبذله الفنان على مستوى اللوحة تستند إلى تاريخ من الصراعات والعلاقات المتشنجة التي أفرزتها الحالة العراقية المحتدمة منذ نصف قرن وليس لها علاقة مباشرة بالعملية الفنية، وتُذَكّرنا بمصطلحات ” الفطرة، السذاجة، البدائية” التي أُطلِقَتْ على أعمال الفنان “عبد القادر الرسام” في بدايات القرن الماضي بسبب كمية الصدق والبساطة والبراءة في لوحته، والتي قرنها “شاكر حسن آل سعيد” لاحقا برؤية “بول سيزان” الفرنسي في القرن التاسع عشر. فإن كانت اللوحة مفرطة في البساطة والبدائية فلقد سبق لأسئلة الوجود المعبرة عن الحب والحياة والموت أن كانت كذلك. إنّ الأحكام والجمل الجاهزة بحق الفن والفنان من مثل “سطحي، فطري، لا أخلاقي، غير وطني” التي يطلقها حراس الفن القديم أمست مضحكة في عالم ذاهب إلى المستقبل، وحرمت أصحابها من أن يفهموا الفنان كما هو وأن يستمتعوا باللوحة كما هي وأن يدركوا حقيقة أن كثير من الفنانين الذين غادروا الوطن والقبائل والطوائف والأحزاب قد أصبح لهم شئنا كبيرا في عالم الفن.
إنّ العملية الإبداعية بطبيعتها لا تميل إلى السكون والتكرار والاستنساخ، وإن تغيير الانفعالات والحالات الإنسانية لا يستدعي بالضرورة أن يهجر الفنان أسلوبه ولغته الفنية، فقد تستدعي العملية الفنية تغييرا في الألوان والخطوط والاستعارات وتنوّع الخامات وتَنقّل المفردات داخل اللوحة ولكن هذا لا يعني سهولة القفز في الفراغ عند أول نقد أو انكسار أو تجربة جديدة ومن ثم التخلي عن الرؤية الفنية التي تَطلّب تشكّلها وظهورها سنوات وخبرات ودراسة ومعاناة، لأن المشكلة ليست في القفز وتغيير الأسلوب بل المشكلة هي هل أن هناك ضرورات فنية أو حراكا في الأفكار المبدعة أو تطورا في حاجات المشاهد استدعى ذلك التغيير؟. الفنان “سعد علي” عاش مراحل الدراسة والتجريب والتأثر بالفنانين والمدارس الفنية أعوام طويلة ابتداء من مرحلة الرواد ومدرسة بغداد للفن الحديث وصولا إلى آخر صيحات الفن الأوربي في إيطاليا وهولندا وأسبانيا ومرورا بالفنون البزنطية التي تضم روائع الفنون في تركيا وروسيا وبلغاريا، إلا أنه اليوم صاحب لوحة وبصمة شكّلت حضورا قويا في عواصم الفن الأوربية.
سعد علي سبق وأن تأثر بثقافات ورموز وتقنيات من مدارس متنوّعة كما مر بنا إلا أنه لا يستعير أسلوبه، ولوحته أمست معروفة بخصوصيتها ومفرداتها وأسلوبها. الينابيع عنده لم تنضب بعد وما زالت أصابعه تصنع الدهشة والحب وتغتسل بهما وتطرح الأسئلة حول إعادة خلقهما في دورة لا تنتهي من الإبداع والمثابرة. فتجاوز المألوف إبداعيا لا يعني فقط الذهاب إلى المجهول والتشبّه بالقوي والغريب وركوب أية موجة جديدة، فقد يكون كذلك في التقاط اليومي والبسيط والمختلف والغني بتراثه وثقافته وأسئلته، وفي أسلوب الاشتغال عليه وفي إيصاله إلى المشاهد.
من الطبيعي إذا شوهدت لوحة أي فنان بسطحية وبنوايا مسبقة فإنها ستفقد شحنتها ورمزيتها وحلميتها، ولو تأملنا في أعمال الفنان “سعد علي” بعيدا عن النوايا فلن نجد ثباتا في التكوين والتشكيل وتوزيع الشخوص على فضاء اللوحة على الرغم من مناخ التكرار الذي تركته مدرسة بغداد للفن الحديث على أعمال الفنان، حتى موضوع اللوحة “الحب والأمل والفرج” نجده في حراك وبوح مستمرين بسبب التنوّع في الاستعارات والرموز ذي المرجعيات العراقية والإيرانية والهندية المبثوثة في الشعر والأسطورة والتاريخ والرسوم القديمة وعصر النهضة الأوربية، فليس سرا تأثر الفنان بأسماء وتقنيات ومدارس فنية أوربية نلمسها بمسطحات “تابيس” الكاتالوني وبجدران “أنبكَوني” الإيطالي وبالتكوينات الطولية لـ”ألجريكو” اليوناني وتخطيطات النحات الإيطالي “مارينو ماريني” وجماليات التكوين عند “كونيه” الهولندي وبساطة الخطوط وبذخ الألوان عند”غويا” الأسباني ناهيك عن التأثر بالتطور الهائل لوسائل التقنية والاتصال المتمثل بموجة الحداثة بـ”فيستا واركو مدريد” لفنون الفيديو والفوتو، وهو ما نلمسه في ظهور بعض المفردات في أعماله الأخيرة . ينبغي القول هنا أن ظهور عنصر جديد عند الفنان لا يخرج اللوحة عن مرجعيتها وموضوعها وأسلوبها، وسرعان ما ينسجم هذا العنصر مع مناخ اللوحة وموضوعها الذي عُرفت به.
إنّ موضوعات سعد علي وألوانه التي “قد” لا تدهشنا نحن القادمين من جهة الشمس الساطعة والحكايات القديمة من فرط العادة والتكرار والخمول، هي بالذات ما تستوقف الأوربي أو الهولندي المشبّع بأزهار فان غوخ وطواحين رامبراندت. هناك الكثير من المشاهدين الأوربيين الذين أصابهم الملل من تجوالهم في المتاحف المشهورة بين لوحات آلام المسيح وفظاعات حروب الاستقلال وجداريات الحربين العالميتين المدمرتين، أمسوا لا يحتملون القسوة والحزن في اللوحة على الرغم من إعجابهم القديم بذلك وبالأسماء الكبيرة التي أبدعتها. المشاهد الأوربي يتعاطف مع اللوحة المشحونة بالألم والمعاناة التي تعكس تجارب وحيوات المغتربين الناجين من حروب وأوبئة ومجازر على الجهة الأخرى من البحر ولكنه لا يفكر باقتنائها وتعليقها أشهرا وأعواما على جدار غرفته، لأنه بالتأكيد سّيمل من تعداد بقع الدم ونظرات الحزن وجماجم الأطفال. العين الأوربية الخبيرة بالفنون البصرية تريد أكثر من السرور والتأثر في تسمّرها أمام اللوحة، أنها تبحث عن المتعة والدهشة في غرابة الموضوعات والألوان والتقنيات وتريد معرفة الجديد من الثقافات والرسومات والحكايات المنصهرة في رؤية الفنان ومحليته ومعاناته. إنها تبحث عن الإنساني في المحلي المتجلي في خمريات عمر الخيام وخلود جلجامش وحكايات شهرزاد، وهو بالضبط ما أشغل الفنان “سعد علي” على مدى أربعة عقود قضاها في المنفى رساما مبدعا وإنسانا لا يكل عن البحث والحب بين إيطاليا وهولندا وفرنسا وأسبانيا. الأوربي الهارب من رتابة المتحف وحراسه وكاميراته إلى حيوية صالات العرض وأضواءها أحب رسومات سعد علي لأنها أراحته من عملية فك أسرار الحزن والمعاناة وصورت له حكايات الحب المرسومة في خياله والمترسبة من أيام طفولته وكتبه ورحلاته، إنه كذلك يحب أن يُحكى له عن حب قديم يشعل روحه ويذكي ذاكرته .
لقد دخلت لوحة الفنان في بيوت ومؤسسات ومتاحف الدول التي عاش فيها، وإذا سَلّمنا بمقولة أن عملية شراء اللوحة هو جزء من تقييمها فإنّ هذا التسليم قد لا يدوم طويلا والمقولة قد تهتز ثوابتها بفعل عوامل الجغرافيا والتاريخ والاقتصاد والمناخ، الأمر الذي قد ويؤثر على سوق اللوحة وحضور الفنان. فالمواطن الهولندي، مثلا، كائن بيتي كما هو معروف عنه ويكاد يقضي أغلب يومه بين العمل والبيت بسبب كثرة الأمطار والغيوم ولذلك تجده يهتم كثيرا بتأثيث بيته من اللوحات الفنية والتحف الأثرية ومن المواد الكهربائية والالكترونية ويفرحه أن يكون كل شيء في متناول يديه ويستطيع أن يفتح ويغلق الأبواب والنوافذ وجهاز التلفزيون والفرن وهو جالس على كرسيه الهزاز يتابع كرة القدم، ولكنه لن يضع مسمارا على جدار بسهولة. في حين تجد المواطن الأسباني المبتهج بنور الشمس الساطعة والمناخ الدافئ لا يكترث كالهولندي بتأثيث بيته ويقضي أغلب أوقاته في التسكع بالمقاهي والحدائق والشوارع المبهجة تحت الشمس الساطعة، فلحق اللوحة ما جرى لتأثيث البيت. ولكن هذا لا يعني أن الأسباني يعاني من نقص في ثقافته البصرية أو هو أقل من أقرانه الأوربيين. إن اقتناء اللوحة وتقييمها له أسباب غير ما ذهبنا إليه في طبيعة اللوحة ومناخ هولندة وأسبانيا المشهورين بفن الرسم، فهو قد يرتبط بالأزمات الاقتصادية الضاربة بعمق في طبيعة المجتمع الرأسمالي وقد يتأثر بالمستوى الثقافي للمجتمع وبلوحة الفنان أو بتشبّع السوق أو بظهور أسماء وأساليب جديدة أو بتحكم أصحاب الكَاليريات بأسواق العرض والطلب وأسباب أخرى ليس مجالها في هذه المقدمة.
المعنيون باللوحة في أوربا يجدون من الطبيعي أن يبحث الفنان المغترب في رموزه وموروثه عبر تقنيات حديثة وتأثرات بالأسماء الكبيرة وبالمدارس الفنية المشهورة، ولكنهم لا تدهشهم كثيرا التجارب التي يلجأ أصحابها فقط إلى المدارس الفنية والتقنيات الحديثة بعيدا عن حضارتهم وموروثهم ورموزهم، لأنه ببساطة أغلب هذه المدارس منبعها أوربي سبق لهم كأوربيين أن خبروها وتشبعوا بعوالمها. إنّ مساحة الفراغ بين أبن البلد “الأوربي” وبين الغريب والتي قد تضيق أو تتسع حسب الظروف والحراك الاجتماعيين، خلقت بعد أعوام من الصراعات وازدياد أعداد المغتربين بأوربا حالة من التوجس وعدم الثقة مصحوبة بالتعالي والعنصرية أحيانا، ترك ذلك انطباعا عند المنفيين والمغتربين مفاده أن الآخر “الأوربي” يتعامل بفوقية مع إبداعات الشعوب، وهي عنده ليس أكثر من فلكلورا غريبا وجديدا يزيد من غلة المتعة ويتيح له الاطلاع أكثر على موروث الشعوب المنشغلة بالفقر والحروب. ومع أننا لا ننفي هذا الجانب كليا ولكننا لا يمكننا التعميم على اعتبار أن أوربا فيها الكثير من الشعوب والثقافات والأنظمة المختلفة، ونرى أن بعض الأوربيين قد احتك على مدى التاريخ بشعوب أسيا وأفريقيا عبر الحروب العسكرية والمصالح الاقتصادية والمعتقدات الدينية صَنَع ذلك أشكالا من تبادل العلاقات والمصالح، أسس بدوره لانفتاح أوربي جزئي على ثقافة الشعوب واحترامها.

* * *
قبل أن ننهي المقدمة نود الإشارة إلى حقيقة أن اللوحة هي أكثر من يوثق لتجربة الفنان التشكيلي ويبعدها عن مخاطر النسيان والمبالغة. وفي هذا الكتاب حاولنا جمع عدد من المقالات أغلبها لكتاب عراقيين وعرب وأجانب على التوالي، تناولت تجربة الفنان على مدى عقدين من الزمن في صالات وعواصم مشهورة بالفن والجمال، اتفقت المقالات في العموم على حضور الفنان في الوسط الفني الأوربي وعلى أسلوب المعالجة الخاص به وعلى النقلات النوعية التي صاحبت لوحته وعلى محنة الفنان بالمنفى. المثقفون والكتّاب في مقالاتهم كانوا أشبه بمشاهدين وعشاق للفن يسجلون انطباعاتهم عن اللوحة في دفتر الضيوف المفتوح عند باب الصالة كل حسب رؤيته وتخصصه، تجلى ذلك في اللغة الأدبية للمقالات وفي المضامين المشحونة بمفردات المنفى والحنين والذكريات وهموم الإبداع والسياسة، فأغلب المثقفين العرب في أوربا هم من المنفيين والمطاردين من حكومات بلدانهم.
إن تجربة الفنان “سعد علي” بالمنفى مرت بمحطات ومعاناة ومواقف أعطته، مثلما أخذت منه، الكثير من الجهد والوقت والصداقات لكنها لم تنتهِ ،كما في الحكايات، بالعودة إلى المكان الأول. ففي بلد كالعراق عاش صراعات وهجرات ومآسي طالت الجميع من دون استثناء، غالبا ما يكون الحديث عن المكان الأول والرسومات الأولى مصحوبا بغصة الفقد والتحسر، ومن هنا تأتي قيمة الشهادات والكتابات والآراء التي صاحبت مسيرة الفنان بالمنفى من جمهرة المشاهدين والكتاب والصحفيين والنقاد في توثيق وإضاءة التفاصيل ولكن كل من زاويته هو ورؤيته هو للوحة وللفنان. وبما أن المقالات ظهرت في أزمنة وأمكنة مختلفة وكتاب مختلفين فليس مصادفة أن نجد مقالة تتناول المورث وتخادم الثقافات ومقالة تتحدث عن ظهور مفردات جديدة في اللوحة وغياب وأخرى ومقالة عن المنفى والدراسة والخبرات الجديدة. قيمة هذه الكتابات تتأتى كذلك من حقيقة أن أغلب لوحات الفنان “سعد علي” قد بيعت وتوزعت في دول أوربية متباعدة من دون أن يحتفظ الفنان بصورة منها، ولذلك نجد الكتابات تتحدث عن معارض شخصية ومشاريع فنية وليس عن لوحات منفردة.
المعروف عن الفنان “سعد علي” اهتمامه الكبير بصداقاته ولوحته وكيفية إيصالها إلى جمهور المشاهدين والمتخصصين، وكان من بين اهتماماته أنه وضع عند باب مرسمه بمدينة “أوتريخت” الهولندية دفترا أنيقا يسجل فيه الضيوف مشاهداتهم وانطباعاتهم عن اللوحات واللقاءات الاجتماعية والأمسيات الحوارية التي كان يقيمها الفنان في مرسمه، وقد تسنى لي رؤية ذلك الدفتر الأسود والاطلاع على تواقيع وكلمات الكثير من المثقفين العراقيين والعرب الذين ربطتهم علاقات حميمة بالفنان من مثل الشاعر العراقي”سعدي يوسف” والشاعر العماني “سيف الرحبي” والكاتب المغربي “عبد اللطيف اللعبي” والشاعر العراقي”بلند الحيدري” والروائي السعودي”عبد الرحمن منيف” والشاعر العراقي”عبد الوهاب البياتي” والشاعر الكبير”مظفر النواب” والكاتب الشهيد “كامل شياع” والشاعر “فوزي كريم” والناقد “ياسين النصيّر” والمسرحي “عوني كرومي” والصحفي “إسماعيل زاير” والروائي “نجم والي” والفنان “بشير مهدي” والملحن “حميد البصري” والمسرحي” حازم كمال الدين” والفنان” قه ره ني جميل” والقاص “عبدالله طاهر” وصاحب دار المدى الناشر” فخري كريم” والشاعر “صادق الصائغ” والسياسي” مفيد الجزائري” والشاعر “عبد الكريم كَاصد” وكاتب السطور وأسماء أخرى كثيرة كانت ناشطة بهولندا وأوربا في تلك الأيام وتزور الفنان في مرسمه بين حين وآخر. ففي تسعينيات القرن الماضي كانت ظروف المنفيين السياسية والاقتصادية مزرية صاحب ذلك غياب ملحوظ للمؤسسات الثقافية والاجتماعية التي تُُعنى بإبداعهم، الأمر الذي دفع ببعض المثقفين إلى إقامة الندوات الثقافية في بيوتهم وأماكن عملهم. ولسعد علي ثلاثة محترفات فنية طبعت بطابع الأمكنة التي تواجدت فيها بهولندة وفرنسا وأسبانيا، إلا أن الأكثر فوضى وحراكا وضيوفا كان بمدينة أوتريخت الهولندية. فبالإضافة إلى الزيوت والأحبار وحامل اللوحات ورائحة الخشب العتيق وصناديق الأعمال الورقية القديمة المخبئة بعناية تحت أرضية المشغل كانت على الدوام معلقة آخر أعمال الفنان على الجدار إلى جانب العشرات من الكتب التراثية والشعرية والفنية المرتبة على رفوف خلف كراسي قديمة تم التقاطها من على الأرصفة، أو أنها تبدو كذلك لشدة عتقها وتناثر بقع الألوان والطعام عليها حيث كان الفنان يطبخ لزواره الـ” الدولمة العراقية” حسب الألوان، الأحمر والأخضر والأسود، غير آخذا بنظر الاعتبار الطعم والرائحة والعناية.
عمدنا في إعدادنا لهذا الكتاب ترتيب المقالات بما يساعد على توثيق التجربة الفنية لـ “سعد علي” بعيدا عن طبيعة الأسماء ومضمون المقالات؛ أيْ أنّنا وضعنا المقالات وفق تواريخ نشرها في الصحف والمجلات، ومن دون التدخل في أفكار ومضامين تلك المقالات إلاّ بما يخدم أغراض الكتاب.
 

مقابل المعطى الوجودي

إسماعيل زاير

افتتح الفنان العراقي سعد علي معرضه الشخصي السابع عشر في أمستردام، حيث يقيم منذ عشر سنوات. ويعد نشاط سعد علي متميزا هذا العام. إذ قدم أعماله في خمسة معارض خلال الأشهر السبعة الماضية . ويذكر أنه حاز على اعتراف من نوع خاص من الارستقراطية الهولندية ذات النزعة المحافظة عندما دخلت أعماله قائمة مقتنيات متاحف الفن الحديث في كل من أمستردام واوتريخت وأمستردام ولاهاي. وهو إلى جانب الفنان اللبناني جهاد أبو سليمان، من ضمن قلة ضئيلة من رسامي العالم الثالث الذين تمكنوا من اختراق “الحرم الهولندي”.
ضم معرض سعد علي (40) عملا بأحجام مختلفة وطغى الزيت على معظم المعروضات التي أنجز القليل منها بالباستيل الزيتي والحبر. وتتميز أعماله، على وجه العموم، باستخدام الأبواب والشبابيك، كخلفية جاهزة للرسم متبنيا الأشكال التي تطبعها. وبانتقائه الخشب الجاهز لعمله يوصل على نحو يسير الإحساس بالملمس المادي للأبواب والشبابيك من دون حاجة لإعادة رسمها أو تقليدها. وبدلا من ذلك يلجأ إلى الطبيعة والمادة المباشرة، كما كان النحات الإيطالي الكبير جياكوميتي يقترح.
على الصعيد النفسي، أي الجذور السايكولوجية التي تفسر الدلالة البصرية والموضوعية لأعماله يظهر، بتكرار جلي، المغزى المقصود من إعادة تأهيل بقايا الدار ونفخ الروح فيها. فالفنان إذ يحوز، من منفاه، على ما يصل يديه من رموز بيته الأول، والبعيد، إنما يجهد نفسه في محاولة امتلاك تفصيل ماضيه الخاص، وإعادة ما انقطع وضاع من سيناريو الحياة الشخصية والاجتماعية.
في مساحات أخرى من أعماله، يثير سعد علي الانتباه بتكراره موضوعة التوحد الإنساني، ليس بالصيغة التي يعبر عنها اندريه مالرو (الإخاء الرجولي) بل بالبعد الفيزيولوجي لهذا التوحد، إلى القدر الذي تقف فيه أشكاله عند حافة التجربة الحسية أي الوصال الجسدي، لكنه وصال تتأسس ذرائعه على أنه أداة توصيل، وتواصل مع المشاهد من زاوية لا علاقة لها بالغواية بل بإخاء إنساني حميم، مرتكز لمعطى الوعي البارد، كما يقترح مالرو.
وفي التقنيات التي يستخدمها سعد يبرز هم البحث والتجربة كقيمة أولى فما من عنصر في اللوحة مستثنى من العملية، فاللون والتكوين والخط كلها تخضع للعلاقات الداخلية من دون توقف عند حدود ما يدعى بالأسلوب أو بتأخر في العمل لصالح التجربة. وبقدر ما يصح القول أن الفنان، من خلال تجديده ذاته ومعرفته، أفضل ناقد لعمله الشخصي، فإن سعد يمارس ذلك بأبواب مشرعة دون وجل. حتى أن بعض أعماله لا تفسر نفسها إلا باعتبارها حالة مستغرقة بين لوحتين الأولى هي الماضي، ماضي التجربة والثانية خلاصتها.
وينطوي عدد كبير من أعمال سعد على نزعة بدائية تكاد تكون تبسيطية، لكنها محمولة على ركائز هي تقنية اللون المحكمة، والتكوين الغريب وغير المعتاد، مع تلاعب بالتشريح الجسدي الذي يوصل إلى معالجة لا تخلو من الفظاظة أحيانا. كما تستعيد بدائيات سعد تضادات اللون أو تناغماته الهارمونية بتكرار لا يكرس الخلاصات البصرية فحسب، بل قيمة البحث باعتباره عنصر الجذب الجوهري. وبتوظيفه العوامل السالفة، يعمد سعد إلى منح أعماله صيغة شبه دينية، من خلال اقترابها من أشكال وتركيبات الرسوم الكنسية والإيقونات. ويحتل عامل إستاتيكي (بمعناه المرتبط بالحركة) يذكرنا بالتزجيج الملون. ولكن ذلك يستقر في الختام عند ضفاف المعاصرة. فالاهاب شبه الملحمي يتجاوز بالأعمال عتبة ” التراثية” ليحيلها إلى فضاء حسي مقدم عبر معطيات بصرية شيقة.
تجسد تجربة سعد على شأن تجربة الجيل الثالث إذا صح التعبير ( أي جيل ما بعد الرواد العرب) محاولة تجسيد المفاهيم الفكرية المرتبطة بفلسفة الفن، سواء بجناحها الذي يركز على المعطى الواقعي الاجتماعي، أو الآخر الذي يصور التجربة البصرية من خلال الخلاصات العلمية والمستقبلية كإشارات للمضمون الجديد الذي لم يتم حسم الجدل إزاءه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة الحياة ـ حزيران ـ عام 1991

سعد علي
حارس بوابة الجنة

Bert Houders

حضارة بعد حضارة وُلدت بين النهرين الخالدين دجلة والفرات، أما الأطلال المهيبة فتقف على الخليج الفارسي لتشكّل نجد العراق. إن ثمة صورا وأفكارا محدّدة صمدت في وجه الموت، وأخذت طريقها نحو الغرب.
لا تزال الثقافة الغربية تحمل آثار هذه الرؤية النفاذة للجنة المغلقة ـ المترفة ـ التي تعيش عهدها الزاخر دون سابق مثيل. إن جنة عدن أصبحت اليوم أرث العالم كله، ذلك ما تؤكده أهمية ومعنى القطع الخشبية المصّورة للفنان سعد علي، حيث نرى فيها رغبة سوداوية كئيبة للجنة المفقودة، روح كل شعب تجد أمانيها فيها، وهي تطفح بالخيال الجامح وصور الحلم مجتمعة.
لعل الأبواب الرائعة لبوابات جنّة سعد علي تخاطبنا من دون وساطة، أنّ هذه الحقيقة تتأتى من أن جزءا من الخلفية التاريخية والعالمية، تحولت أو اندرجت ضمن علم دراسة الرموز، والأيقونات وبالتالي أصبحت قصصا محببة يتناقلها الناس.
من الواضح أن الفنان سعد علي يستخدم أشكالا ذات عيون بيضاوية كبيرة، مفتوحة أو بريئة، إنها تمثل صورا سيراميكية من سومر ومن نقوشات جدران بابل ونينوى… حيث أن القرآن يصف ذلك بدقة، كيف أن النسوة الجميلات ذوات العيون السود الكبيرة، يمكثن في راحة البال في الجنة، إلا أنّ التقاليد الأوربية الغربية تربط ذلك بالبراءة والصراحة.
المسبحة الصورية لسعد علي هي عربية خالصة، بهذا المعنى هي ديكورية، قد ينقصها العمق البصري، لكن في ذات الوقت، فأن صوره تشبه القصص، التي تؤطر تواريخ مختلفة ذات أبعاد عديدة..فالموقع المركزي لسطح الصورة محاط بناظرين وهم يعكسون ما يجول في أذهانهم إزاء الأحداث، أحيانا بشكل خفي، تماما كالجوقة التي تصاحب الأحداث في التراجيديا الإغريقية، وهي لا صلة لها بما يدور حولها، ولكن تختلف عنه، أنها بالنسبة لنا تمثل “الشعب” لكنها في نفس الوقت تمثل “الإنسانية” بالمعنى الأوسع لهذه الكلمة.
نذكر أيضا أن الباب، الذي يقود إلى تلك الجنان ذات التركيب الهارموني، هو دائما مفتوحا عند سعد علي، وهذا مما يشجع الناظر أن يمارس عليه خرقا، ليلقي نظرة عامة، على نفس المكان الذي كان يحرم على الميت دخوله، ومن جهة أخرى فأن كل واحد منّا في رحلته الطويلة، خلال وجوده اليومي، بحاجة إلى أن يرى فقط، بروحه وبمرآة الأمل، ليعرف إلى أين هو يمضي! وأن تنفيذ الوعد المؤجل لوقت لاحق، إلى مستقبل بعيد حيث يجده في منتصف الطريق، وفي مكان غير متوقع، في اللحظة التي يكون فيها على اتصال دائم بسعادة وسلام الآخرين..
إنّ التقرير بهذا المعنى، هو رسالة تكسب إشراقة إضافية بشكل أروع، وبمهرجان لوني خلاّب.
ـــــــــــــــــــــــــــ
ترجمة: هه فال أمين عن مجلة kunstwerk الهولندية/ 1993

طقوس ورموز الخصب
والحياة بين الرافدين
حامد الهيتي

ثمة من يقدم تبريرا واحدا لصيغة المعاصرة في الوجود الإنساني ويقول: إن وجه الإنسان كان ولما يزل المرتكز الفعلي لكل المحاور التي تبحث للأبد عن هوية الطرح الفني ..وليس من شكل واحد من أشكال الفن القديمة أو الحديثة، ومن لا يؤشر إلى ضرورة التعرف إلى هذا الوجه بكل ما يحمله من صفات وسمات الجمال والرعب والانتظار والشيخوخة والقسوة والعذابات المتلاحقة، والدخول إلى محتواه بعمق أكثر، لأن هذا التوغل لا يعني في الأخير غير اكتساب قيمه وملامحه وبعض من إيماءاته. ومما يثر الجدل هنا هو تلك الأعمال الكثيرة ذات السمات والدلالات الواضحة والمعروفة التي قدمها التشكيلي العراقي “سعد علي” المقيم في هولندة منذ سنوات طويلة.
فعلى جوانب الوجوه وصفحاتها التي انتشرت في غير لوحة عنده، وخلال المحاولات الجادة في الوصول إلى صيغ تشكيلية، أراد أن يهتدي إليها هذا الفنان، لا نلمح إلا المسافة الطويلة من ذلك الخط من الطرح الفني، وتنوعا في الكميات الفنية لترسبات بعض مضامين الأعمال الفنية في معارضه الكثيرة التي اعتمدت أساليب التشكيل الحديثة مما ساعد المتلقي على تأكيد ملاحظاته عنها.
يبدو أن هذا الفنان في أشكاله كان حليفا لتلك النماذج والأشكال والهيئات والرموز الرافدينية التي وجدها لمسيرته الفنية الطويلة.. بمعنى آخر أن “سعد” كان يحتك مع الحواس التكنيكية الحديثة على وفق مناظير ومستويات مختلفة. ربما أراد بذلك أن يمسح عن سمات أعماله هذه كل الفواصل التي ظلت لفترة غير قصيرة تعترض طريقة طرح نفسه بوضوح، ومع هذا فأن اعترافا واحدا ما زال يلح على القول وهو أن تحول “سعد” في المسيرة الفنية والزمنية الطويلة لتحقيق أعماله إلى الاستسلام الذي كان يتصوره بأنه قد جاء شرعيا ونهائيا، إلى الانغلاق مع مضامين أعماله على المساحات الهندسية والنحتية. فوجود الألوان الهارمونية بكثافة في جل أعمال “سعد علي” يحث الآخرين على الشروع والبحث عن المطلق، وأن أشكاله كانت أقرب ما تكون إلى الإرادة الذاتية، وهي تبحث لديه عما وراء الأشياء التي ظلت تحدد عالمه العجيب.. المنبهر والتلقائي والقريب من نفسه كل القرب.
ثمة تساؤلات هنا، بما أن الطريق إلى اختيار الموضوع يظل واضحا، والمسيرة في أمكانية اكتساب خبرة العمل ونضجه معلومة، فما هي اللغة التي يصر الفنان على ضرورة اختيارها لمخاطبة الآخرين بواسطتها. إن مجرد اختيار الفنان لتلك اللغة الاشتقاقية المعاصرة ما هو إلا إعلان داخلي يمكنه التلاحم مع مطالب الآخرين، أي بمعنى أن الفنان دائما لديه ما يقوله ويصرح به كعلامة أكيدة لتدوين شخصيته، ولطالما كان قد اختار تلك الشرائح المدللة على خرائطه اللونية والموضوعية، وهناك في البعيد لا تزال تلك النقطة التي تضم الهدف الحقيقي الجاد، وهي ما يلهث الفنان أبدا لبلوغها ومن ثم امتلاك ضفافها تظل منتصبة دائما وأبدا، وإن التكشف الذي أراد الفنان أن يوقع عليه صورته هو بحد ذاته جذري وأصيل وربما يكون أحيانا كنوع من أنواع الحضور أو الغياب، ولكن ومع ذلك، ليس باعتبارات بعيدة عن الجوهر يستطيع الفنان أن يتجاوزه.
ولعل حق الإشارة إلى أعمال الفنان “سعد علي” يعنينا بالضبط لأنه واحدا من الذين حكموا على أنفسهم بالانتماء إلى الكل أولا، ثم مشاورة نفسه وأعماله بطريقة الحذر من البقاء في استدرار أعماله بهيئتها الحديثة. من الجدير بالملاحظة أن “سعد” في بعض أعماله التي استعمل فيها الأبواب الخشبية كسطح لبناء اللوحة كان مهاجرا من الداخل، ولكي يظل ذلك العراقي النقي أبدا رغم غربته التي استمرت سنوات طوال كان على عينيه وحواسه أن تعانق العلاقات الأساسية لتلك الطقوس (طقوس الجنس – الحب – العلاقة الحميمة بين البشر – التوتر الجسدي – القلق الحضاري – الإمعان في عالم الجنس وحد الغياب فيه) غير أنه حين ينتقل إلى السطح المنسكب في اللوحة، يبدو طبيعيا وتسقط كل إرهاصاته الوجدانية واللونية، ولهذا فقد جاء السطح في أعماله ضاجا وصاخبا ومملوءا بالخطوط والحركات التي أثرت كل التأثير على البعد الطبيعي مما كان يجب أن يتخذه جو اللوحة و”سعد علي” مطالب بضرورة استلاب وجهه ومن ثم عرضه على الآخرين من جديد. من وحي عالم الجنس ومن وحي الوظيفة اللونية صاغ الفنان مشروعه وابتداءه بالتقصي الهادئ باختيار طريقة مواضيعه، فهي أشبه بارتكازات وصفية ترتمي في شعور الوحي التاريخي الرافديني خاصة، حتى أصبحت مواضيعه مشابهة تماما لعناصر الرمز، بل ربما أحيانا في بعض أعماله الأخرى كان الرمز هو هدفه بالضبط. إن في امتداد مسيرة “سعد” تدفقا تاريخيا يصاحب واقعه اليومي الذي يعيشه هذا الفنان بكل تفاصيله وأبعاده وطموحاته العريضة، ويبدو أن تركيزه على طابع الفواصل الهارمونية في الوجوه والأشكال والمواضيع كان واضحا وجليا، مما استطاع أن يترك في رأس المتلقي عالما قريبا منه بعض الشيء وغريبا عنه بعض الشيء، كما نلمس أيضا قوة الخطوط غير المرئية والمتداخلة في الكتل اللونية المشتقة من طابع الفنون الشرقية والإسلامية عبر الانسياب الذي بلغ بـ “سعد” مرتبة الشاعرية الشفيفة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– صحيفة القدس العربي/آب (أغسطس) 1997

الباب مُحرّض لكشف المكنون

محمد حياوي

بين فكرتي الحب والأمل، تتأرجح موضوعة سعد علي لتقترح ما يمكن أن نسميه فاقدة الفرجة، أو باب الفرج، إذ يشكل الباب، لدى سعد علي، الفتحة المطلة على العالم المتناهي في تفصيلاته، وإطار اللوحة هو إطار الباب المفتوح لعين الرائي، حيث العوالم الضاجة بالهياكل والأجساد البشرية المتلاصقة، المعبرة بحزم عن الحب والرغبات الإنسانية الجارفة.
والباب يطل دائما على الأسرار، أسرار الغرف المغلقة، والبيوت التي تخترقها عين الفنان القائدة لعيون الرائين فيما بعد، وتقيم اضاءاتها في بقع مختارة بحذاقة وقصدية مطلقة، لتطالعنا شخصيات غريبة الأشكال والتكوينات، بأطراف ذات أصابع ملتصقة ببعضها، وعيون مستطيلة مفتوحة، تراقب أولئك الآتين لاختراق عوالمها، عيون مصوبة تكاد تتحول إلى أفواه تلتهم.صابع ملتصقة ببعضها، وعيون مستطيلةذذذ كلما أوغلنا في تفصيلات سعد علي التي تكشف عنها أبوابه المواربة، كلما اكتشفنا المزيد من المكونات التي يزداد التصاقها ـ توحدها ـ شدة، لتنسج بصمت شرنقاتها وخيوط علاقاتها المتشابكة مع بعضها ومع الحيز المحيط.
إطار اللوحة عند سعد علي، عتبة الباب المحرّض على اجتيازها، كشرط لاستجلاء عوالمه السرية الآسرة، الموغلة في قدمها، قدم الشرق والعزلة والمكنون، والاختباء وراء أستار الحريم الضاجة بأقمارها الدائرية ومكوراتها الخلاقة. واستنادا إلى هذه الرؤية، أقام الفنان علاقة رؤية مع الخشب كمادة مطواعة، لينة، تنقاد رقابها بسهولة لالتواءاته الفاتنة، إذ يقول سعد عن هذه العلاقة ” في البدء، في إيطاليا، تعاملت مع الفريسكو ـ الجص والماء ـ واستفدت، إلى حد ما، من رطوبة الماء كمظهر مكمل لمفهوم الليونة، ولكن المسطحات التي يخلقها الفريسكو لم تمنحني أفاقا كافية، كذلك التيلة والقماش لم تستجب عندي لليونة الجسد وانطلاقته الروحية، لأن تلك الليونة يجب أن تتوفر على قدر لا بأس به من الصلابة اللاحقة، كقوة، أو دافع يحرر الحركة من أطرها الخاصة، لذلك لجأت إلى الخشب، خشب أبواب خاص منتقى، وليس أي خشب، أو أي باب”.
تبدأ الرؤية إذن من خشب الباب ـ باب الفرج ـ أو باب الفرجة، لتكون مدخلا لأسرار الفنان، ونقطة اجتياز باتجاه ما وراء الأستار والحجب والعيون والذاكرة والتراث والمدونات واللغة المبهمة، والمناطق غير المكشوفة. والخشب، بعد هذا، أمين على المحفورات وأثر سكين الفنان وفرشاته، يحفظها كما هي، ويبرزها في تغليفات ألوانها، وهو حميم، محبب، يبعث الطمأنينة والهدوء في النفس، لأنه شيء من أمنا الأرض، على العكس من الحديد، مثلا، فهو ضد لنا حتى في منافعه.
وإذا كانت الأعمال الفنية، المرسومات تحديدا، تتطلب إعمال العين لفهم منطوقاتها ومنظومة رموزها وتعابيرها، فإن المرسومات لدى سعد علي، تتطلب، إضافة إلى ذلك، مقدرة على اللمس، إذ يقول: ” تستطيع أن ترى عملي من خلال لمسه، فله مستويات، وهي بناء مكاني مرئي” وعبر متوالية الرؤية ـ اللمس هذه يسعى الفنان للاستزادة في بعض تفصيلات الأيدي والأرجل واستطالاتها وتفرعاتها، ليس تمددا أميبيا، وإنما تمدد محسوب يضفي نوعا من الحركة البصرية للأعضاء التي تتحرك وسط عالمها المقترح من الفنان، وهي تقيم فيه علاقاتها الداخلية ذاتيا، دون تدخل من الفنان، عوالم تمارس ديمومتها في حجرات متداخلة، بعيدة عن العالم الخارجي، الذي هو من وجهة نظر سعد علي، ملابس ـ تغليفات ـ تغطي أفعالنا، بينما نحن، خلف الأبواب شيء آخر، مختلف، صريح برغباته وأهوائه وتوحده وممارساته وحريته، الخارج تغليف الذات، ولكن الداخل عري حقيقي، وهكذا يحاول الفنان أن يقترح شكل العلاقة، لأن الباب دائما هو المغلق على مكنونات الداخل، نراه في جميع أعماله. يصر على فتح مغاليق تلك الأبواب، أو تلك العوالم، بطرق حاذقة، ليس لهتك سرها، أو تبديد خثرة سكونها السرية، ولكن لفسح المجال لها لتمارس ثقلها المعرفي على الرائي ـ المتلمس في مكان آخر ـ تلك هي عوالم سعد علي، أو أبوابه المقترحة لإقامة الموازنة، غير العادلة، بين الخارج والداخل، ليظل الوسيط، أو المحرض، الباب دائما.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة الوسط ـ 15/ 9/ 1997

بين التراث والتلقائية

نصير عواد

إنّ عملية تسييس الفنون والعلوم في النصف الأول من القرن العشرين، ومحاولة أسلمتها في النصف الثاني منه، أعادت من جديد طرح قضية الفنان على طريق التوصيفات السياسية والفنية والاجتماعية والدينية، هل الفنان أبن بيئته أم نتاج للصراعات الاجتماعية والاقتصادية أم هو “مخيلته” إبداعه الذي يُعدُّ أعلى أشكال نشاطه الروحي أم هو هذه الأشياء مجتمعة؟ هنا حالة الفنان العراقي “سعد علي”.
لقد خرج الفنان “سعد علي” من بيته في المرّة الأخيرة لكي يعود بسرعة، أو لا يعود مطلقا، ليبقى الشرق في ألوانه والوطن في أبطاله والبيت في مفرداته. أعوام طوال بين إيطاليا وهولندة وهو في بحث مستمر عن أسلوب يعبر فيه عن شخصيته وعن قيمة العلاقة بين موهبته والمتلقي. ولذلك لم تنغلق تجربته أو تتعلق في الفراغ. في معرضه الشخصي الأخير تطالعنا لوحات تبوح بحكايات متعددة المعاني بتعدد العيون، حكايات لا تستوقفك فقط بل وتطالب بالإنصات لمستويات السرد، وتترك لخيالك لذة التفكيك والبناء والإنشاء بما تشتهي. فالأجواء الحالمة والخيالية للوحة سربت للمتلقي هذه الخيوط، ولكن دوما خلف تفصيل من الحكاية يمتنع عن البوح خلف الأبواب والشبابيك. تفصيل يتجلى في الغموض للإعلان عن حضور اللوحة.
مخيلة الفنان صندوق عرس عتيق مزدحم بألاعيب الطفولة وشوارع مدينة منسية على نهر الفرات، تنتشر على أطرافها قبور أئمة مجهولين، ونساء تعج بألوان الشرق الموحية بالشهوة والعزلة الصحراء. ألوان حمراء وبرتقالية وذهبية تتدرج تبعا لفرشاة الفنان ومزاجه، لتروي ما قد نسيته الخطوط من سرد على ألوان الجسد. تدرج اللون ودرامية الخطوط يعطي الانطباع بشاعرية اللوحة وعمق دلالات الألفة والحلم. أحيانا تتلطخ الوجوه بطبقات الأصفر دلالة النفاق في لقاء الحبيب الكاذب ليعري شخوصه من عريهم بعد أن عراهم من عمومياتهم “ملابسهم”. والعري هنا يشير إلى الإنسان ونقاوته أكثر من إشارته للغواية.
كل تفصيل في اللوحة يشير إلى المحبة، التي كانت يوما ما “الطريق إلى الله” وهي من أجمل الموضوعات التي خلّفها الفنان أثر في النفس. المحبة تروي أكثر مما يقوله العري، إنها رحلة اليدين والعينين إلى الدهشة، إلى الخوف على الآخر ومنه. وجها الإنسان في شاغل عن المتلقي، والعيون إلى بعضها شاخصة ومفتوحة كأنها في حوار. الفراغ يبتعد عن قسوة الألوان ليساهم في إبراز الكتلة، فيسود الانسجام في ترنيمة الجسد وأطرافه ليبقى مأخوذا بعري المحبة، التي هي هنا قيمة الفعل. للوهلة الأولى تبدو أن أجواء المحبة قد أضعفت فكرة الصراع في للوحة “إذا أنت المتأمِّل والمتأمَّل” لكن الإشارات التي يرسلها التوحد تنطق بالحب والصمت الممرور، وإن أصغر تفصيل ممكن تحويله عند المبدع إلى شيء كبير وكوني.
إنّ صراع الحضارات “حوارها” كان ولا يزال ظاهرة موضوعية لا يمكن تجاوزها، واستلهام التراث الإنساني لا يهمش التراث العربي الإسلامي وما قبله بقدر ما يعمقه. وما تشابه الوجوه في أعمال”سعد علي” إلا نوع من البحث عن رمز كوني بذرته في وادي الرافدين. لقد أفاد الفنان من هذا الحوار في طرح موضوع شرقي “إسلامي” بتكنيك حديث ليقف إلى جانب المعاصرة واستلهام التراث. إنّ الاغتراب الزمني للفنان جعل من موضوعاته ميالة إلى التراث وخصوصا موضوعة “المحبة” لتعبر عن مشاعر الفنان الهادئة في تداخل الأجساد وتشابكها كأغصان سدرة عتيقة مرسومة بألوان السجاجيد وبقايا الوشم. أجساد يلينها لسع الجمر ولا يظللها فراغ اللوحة، لتظهر كونيتها في دوائر النهد والبطن، تبدأ بعدها الخطوط في تصعيد الدراما في الأطراف، هناك اللذة في قلق الأصابع التي تبدو في حوار وهمي تخلقه حرارة الألوان وحركته الصادمة لخيال المتلقي، وتستطيل الكتلة محلقة لا شيء يسندها فيتكثف توزيع السرد في هدأة الخشب العتيق فتعود السدرة إلى البذرة، وتأخذ بأطراف الفرشاة إلى التراثي فالأسطوري تصبح عندها رموز المحبة عصية على الترتيب داخل إطار مألوف أو دائري “السكون” داخل المربع ” وحركته” لتخرج أحيانا على الإطار وملتحمة بصندوق خشبي دوار “ذاكرة الموت” لتسهيل المشاهدة في عملية دائرية تذكرنا بالأضرحة الشيعية.
رحلة الفنان أشبه ببحث عن عشبة الخلود بواسطة الألوان. الاغتناء هو الخلود كما يقول “سعد علي”، ولكنه الاغتناء غير الشخصي الذي تحدث عنه مارلو. إنّ الاستلهام البصري للتراث الإنساني أبدع مساحات لمفردات السرد التشكيلي في أغناء الحكاية، مفردات لا تستقر على لون بل تتوزع على فوضى الجسد المحاصر بالدهشة والحب. تفاحة اللعنة الأولى والقلب “شوق النفس” رموز ثرية في إنتاج الدلالات، تكورهما عمق ودلالة الأنثى، تماثلهما وتنقلهما بين الفاتح والغامق، استقرارهما بين أصابع اللذة والحرمان. وهناك رؤوس صغيرة مفتحة العيون على تاريخ الخيبات تخرج من صندوق الذاكرة “امرأة الليل تخبئ عشاقها في الصندوق”. وجوه تحدق في إله مغضوب عليه لكثرة عشاقه، والرؤوس هنا هي ليست كل شيء بل محمولاتها، فنجدها أحيانا على قواعد شطرنجية ترمز إلى اللعب والصراع ” الإنسان الذي نصفه حيوان” وأحيانا تفترش رقعة الشطرنج أرضية الخلوة مرسومة بألوان غير الأبيض والأسود، مما ساعد في تضييق مساحة الفراغ.
إن أعمال الفنان تحتفل بكثير من الرموز ومفردات السرد الأخرى مثل فص الخاتم، الوردة، الغصن، العين، الشموع … أدوات بصمت تشيد اللامرئي. الوجود ليس أملأ للفراغ بل هو تفاعل رموز منفردة لخلق انطباع عام للجسد وبتناغم لوني يعكس وحدة الموضوع وشاعريته. أحيانا المباشرة في استحضار التراث، والتلقائية التي تتمتع بها أعمال الفنان تعطي الانطباع للقادم من الشرق بسطحية القيمة الفنية، ولكن هذه الأسباب، وأسباب أخرى متعلقة بالمبدع والسوق، كانت وراء اقتناء الأوربيين ومتاحفهم أعمال الفنان “سعد علي”. فلقد استطاع إدهاشهم بتراثه وتقاليده ومفرداته الفنية ومبتعدا في الوقت نفسه عن إعادة إنتاج المدارس الأوربية، كالرمزية والانطباعية والسريالية وغيرها، ثم عرضها عليهم لتكون بضاعة ردت إلى أهلها، ولكن بشكل مأساوي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– صحيفة بريد الجنوب بفرنسا / أكتوبر عام 1997

لوحات تستهلك مفردات الفنان…وتفتح أبوابا للمخيلة

الطيب زاك

أي فنان يبحث من خلال لوحاته عن تغيير ستظل لوحاته تبحث هي الأخرى عن مشاهد يتجاوب معها. لا أحد سيقول عن الفنان “سعد علي” أنه يحاول البحث أو الوصول…لوحات معرضه في الكوفة غاليري هي للاستفزاز، وما يؤخذ عنها أن فيها قناعة. التأثير يوقف الرؤية وقد يؤجل التأمل، ليس هناك بديل. وإذا لم يصب الشكل العام فأن وضع الجسد سيقوي التكهنات حولها.. الضغط هنا يزيد من الرغبة…وهي ليست من رغبات الجسد، أنها تهدج في المخيلة.
أعمال “سعد علي” مثل تفاحة قاضمها من الفردوس، هناك فرصة للتخفي عن الهدوء وجماليات العالم القانع المسيطر. نحن أمام لوحات لا تزيل شكوكا وإنما تغذيها، وتعطينا أصنافا متكررة من العناق والنفور والصمت والنظرات التي لا تنتهي. سطح اللوحة هو سطح الجسد. الخيال بمثابة فم، أو بالأحرى مقبض باب، فتحه يغني عن أي وصف.
في اللوحات تمثيل مسرحي، إلا أنه يقدم لنا الملل كي لا نصاب بالملل… الشخصيات في هذه اللوحات كأنها مرت بأطوار عدة، مرت بكل مراحل الأسطورة ولم يعد هناك ما يقال. ومن هنا توصل للعين صمتا وهدوءا. لا نريد أن نصفها بالميتة هنا، إلا إذا كنا قادرين على إعادة إحياءها بنظرات جديدة مجردة من كل التغليفات.
الأسطورة قائمة لكنها لا تنتهي. كل لوحة في المعرض هي لقطة تحرضنا على التجرد من كسل النظرات، وتضعنا أمام مسؤولية المشاركة. وعند ذاك لا ننظر في اتجاه واحد، أو من موقف واحد. جرب أن تنظر إليها على الأرض مثلا، أو من خلال مكبر يكسر الصورة إلى ما نهاية.
هناك محاولة إعادة الأسطورة كأنها لم تقل بعد. وكأن لا أحد سمعها من قبل، وهكذا فأن الشخصيات تأكل نفسها باستمرار، فيستهلك الفنان كل مفرداته، وإذا به يلجأ إلى تزيين الجسد برموز عدة كأنه يريد أن يقنعنا ببراعة ما. وهو شيء يؤدي إلى نقيض الهدف.
شخصيات تنظر في اتجاه واحد إلى اللاشيء. هل هذا نقص عند مخرج “التمثيلية” إلا أنه يدل – حسب ما نرى – إلى نقل التشوه من الشكل إلى المشاهد في عملية استفزازية. أعضاء غير متناسقة، وهي أشكال هندسية تقريبا. نظراتها جزء من تجاهلها لها. شخصيا مشغولة بما تقوله لنفسها…
يطرح الفنان قضية العلاقة هنا، وهي علاقة أسرار وعزلة وتفكك في الاتصال. وعلى رغم اهتمامنا ، فأننا سرعان ما ننسى هيئتها، وما يظل في الذهن هو أوضاعها وما تقترفه. انشغال الأشكال ببعضها نوع من القناع. الحب الذي نراه في المشهد هو تغليف لعملية النسيان.
ماذا يفعل الفنان الذي توصد أبواب العزلة عليه؟ إنه يلجأ إلى رسم شخصيات تتظاهر بحب بعضها، وإذ يدخل في التفاصيل فإنما أمام تطفل جنسي: الألوان قانية شهوانية، تتظاهر بما هو أكثر، أي أنها تتشبه برسوم إغريقية على أواني الفخار. لكن على يد “سعد علي” يتحول الأشخاص المرسومون إلى ما بين وحش وإنسان. وفي هذا محاولة ربطها بالماضي. أشكال تظل “كاريكاتورية” في حضارة الماضي لا اهتمام لها الآن سوى أن تأكل بعضها في شهوة مؤقتة وملل مستمر، إنها تشويه لعظمة قديمة.
الرسم على الباب \ اللوحة هو عملية إنشاء، تزينية ومحتملة. ولكن هذا النوع من الإطار يحد، على المستوى البعيد، من انطلاقة الأسلوب في تجارب عدة، مثلما تحد الأبواب مساحة وتسجنها. وإذا تركنا هذا جانبا إلى مستقبل تطور الفنان فإننا نجد أنه يستغل كل ما يوجد في اللوحة من تضارب وتناقضات ويصوبه كانتقاد إلى اتجاهات عدة في الرسم. أسلوبه متميز وشخصي ولكنه ليس بعيدا عن التكرار. ربما لأنه يحاول هندسة أفكاره غير المنطقية. لوحاته تحرض مثلما تستخدم عناصر تزيين في محاولة تجاوزية إلى ما يرمز إليه الشكل. والغاية هي إثارة رد فعل عند المشاهد وفتح نافذة المخيلة على أكثر عدد من الاحتمالات والتكهنات.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ صحيفة الحياة، نوفمبر عام 1997

سعد علي: الرجوع المستحيل إلى أسوار سومر

نجم والي

ليس من قبيل الصدفة أن يكون “باب الفرج” هو عنوان المعرض الذي أقامه سعد علي أخيرا في أمستردام. فالفنان العراقي المقيم في مدينة أوتريخت الهولندية، ليس إلا إنساناً مطروداً من نعيم طفولته. ولم يعد له، هو العاجز عن تنسم هواء الطفولة مرة أخرى، سوى أن يقف عند الباب نفسه الذي كانت تقف عنده أمهاتنا المحملات بالخيبة والحزن. كانت كل أم تأتي كي تطلب مرادها، ونادراً ما كانت تطلب شيئا لأجلها هي، بل لأجلنا نحن العفاريت الصغار الذين سَنُطرد بعدها.
ولأن سعد علي فنان ذو حساسية خاصة، فهو لم يختر الجلوس على الحقيبة المحزومة، كما فعل بعض زملائه، في انتظار أن ينفتح “باب الفرج” وحده، بل نراه يحمل عدته، ويرش ألوانه على ذلك الباب، يضرب عليه بفرشاته، وإذا رفض أن يفتح، فَلِمَ لا بفتحه على طريقته هو، أيْ فوق سطح اللوحة؟ بهذه الخلفية يشتغل الرسام الذي بلغ لتوّه الأربعين منتميا، حسب التصنيفات المتعارف عليها، إلى جيل السبعينات. لكن لوحته لا تعكس رؤية جيل معين، بل تقول فكرة النفي الأبدية التي تطال كل زمان ومكان.
وبقدر ما يستفيد من فكرة الأبواب العراقية المشيّدة في ذاكرته، فإنه يتعداها إلى حدود العالم، لأن فكرة الأبواب فكرة أزلية وكونية، شغلت وتشغل كل البشر، كونها ترمز إلى سعادة الإنسان وتوقه إلى استرجاع الطفولة الضائعة، وما تقترن به من طمأنينة وسلام. لذلك تطغى على لوحاته وجوه عريضة، تزينها عيون واسعة بيضاوية، عيون تشع بالبراءة، ولا يهم إن كانت حزينة أو سعيدة أو منفعلة ما دامت الريبة غائبة عنها. إنها ترمينا بسهامها، تستفزنا بتعبير تجريدي يُفزعها من كل ما هو آت. حتى أننا كمشاهدين لا نرى فيها، لخيبتنا، أي انعكاس للحظتنا الحاضرة.
لوحات “ماكرة”:
عيون سعد علي تتوسم الأبدي فينا، تستفزنا لاسترجاع المشهد الأول السابق لطردنا من نعيمنا. لبرهة فقط، تلقي بنا عند “باب الفرج”. لذلك ليس من العجب أن تكتسب الوجوه في اللوحات أبعادا كونية لأنها، وإن عكست روح الأسطورة في خطوطها، لا تنتمي لغير الكائن الإنساني. لكن حذار، لأن ما يشغل الفنان، هو كيفية الدمج بين المحسوس والمجرد، بين اليومي واللامتناهي. لا عجب والحالة هذه أن يحمله مشروعه الفني إلى جذوره القديمة، إلى أزمنة بعيدة، حين كانت بلاد ما بين النهرين، وبالأخص جنوبها الذي يأتي سعد منه، عامرا بجنته الممتدة خارج الأسوار.
إنها حقا مفارقة غريبة، أن يسمي السومريون، وبحس وجودي غير قابل للتصديق اليوم، السهول الممتدة خارج الأسوار والحصن بـ “عدن” التي هي مرادف للنعيم. فالمدن، بما تمثله من سلطة كانت الخناقة التي تسد منافذ الفراديس. وعلى هذا الأساس، يصبح النفي والخروج عن السلطة هو الفردوس. هكذا يقودنا سعد علي بطريقة ملتوية.
ولعل إسماعيل زاير أصاب حين أشار إلى غواية تلك اللوحات “الماكرة” فسعد علي يجعلنا، حسب الناقد والفنان المقيم في بلجيكا، شركاء أسفاره وقوافل الناس الذين تملأهم الضراعة وهم يتجهون نحو كل الأمكنة، ويأتون من كل اتجاه. يدفعنا إلى الإقرار بهذه الشراكة، إنما يجعل من قضيتنا المشتركة _ نحن واللوحة _ موضوعا ساخنا للتأمل.
فالبحث المحموم عن “أبواب الفرج” جعلت الفنان يستخدم الأبواب القديمة والشبابيك المهملة التي يرمي بها الهولنديون إلى الشارع. هكذا يكتسب إطار اللوحة وظيفة “باب الفرج” الذي نقف عنده كمشاهدين، من دون أن يقع في فخ تقليد الطبيعة ومحاكاتها ونقلها بأمانة أوتوماتيكية. العنصر الواقعي مستخدم هنا كمفردة في خطاب أعم، كحلقة محورية في رؤيا أشمل. ألم يفعل هنري مور وجياكوميتي الشيء نفسه.
بهذه الطريقة، يستفيد سعد علي كثيرا من محيطه الجديد، لا يجد نفسه مجبرا على اللجوء إلى الفلكلور الذي ازدحمت به للأسف لوحات غالبية العراقيين في المنفى. لذلك هو رسام ينتمي إلى نفسه أكثر مما ينتمي إلى مدرسة معينة. فربما أثرت جماعة الرواد على نمو معارفه الفنية وتطلعاته، ولكن ذلك يعود إلى زمن ما قبل طرده من “نعيمه” قبل أن يقف كما يفعل الآن عند “باب الفرج” مشكلا نعيمه خارج الأسوار. فمنذ وعى الفنان تلك الحقيقة المرة، حقيقة أنه لم يعد بالإمكان الرجوع إلى “أسوار سومر” ، يمتلكه هاجس التطلع إلى ما هو قادم.
أبعاد رمزية:
إن تمييزه الفني، لفت انتباه الناقد الهولندي بيرت هونديرس رئيس تحرير مجلة “كونست فيرك kunst werk ” المجلة التشكيلية الرئيسية في هولندا (تُكتب بلغات أوربية عدة وتوزع أوربيا). يلاحظ الناقد المذكور كيف أن سعد علي يعيد تكرار أشكال شخوصه داخل محيط اللوحة، ويقوم بتلوينها أو تركها فارغة على الأبواب. “لذلك نجد أعماله بعيدة عن ما هو معروف من أنماط مألوفة في الرسم _ يكتب هونديسرس _ فهي أقرب ما تكون إلى تخطيطات منفذة تعطي مواضع ترمز إلى عالم مثالي، من دون أن تتولى بنفسها تأسيس رؤية لذلك العالم” .
وعند هذا المستوى، يتضح ارتباط لوحة سعد علي بسمات الفن العربي الإسلامي، بالفن المعماري تحديداً. فالديكورات ذات الجمال الأخاذ في القصور والمساجد، تنعكس هنا _ كما هي في الأصل _ سمات ذات دلالة قوية، فتلك العناصر لم تكنْ يوما مجرّد تخطيطات أو صور، بل تشكّل دلالات محددة تختفي وراءها رؤيا شاملة للعالم. المشهد هنا ينطوي على أبعاد رمزية، ويبدو جزء من التخيل العام.
وتتميز لوحات سعد علي، إضافة إلى تركيبها المحكم، بخطوطها ذات الحركات الانسيابية، وكذلك بطراوة الألوان وانسجامها مع أطر اللوحات. فالشكل هنا جزء متمم، وعنصر جمالي أساسي للبناء العام للوحة. وربما كان سعد علي، لهذه الأسباب مجتمعة، أول فنان عراقي تدخل لوحاته أهم المتاحف الفنية في هولندة، بلد رامبرانت الذي فتح ذراعيه لتجارب الرسام القادم من جنوب العراق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ مجلة المجلة، عام 1998

نساء بعيون سومرية واسعة مثخنات بالأنوثة والخصب

عاصم عبد الأمير

يجهد الفنان سعد علي المقيم في هولندة غب إحداث مصاهرة بين رسوماته ذات الطرازية الشرقية والروح الأسطورية التي تغلف المشاهد الإنسانية التي تبدأ من الجنس بوصفه علامة على الإخصاب والنماء. الثيمة التي اشتغل عليها فنان حضارة وادي الرافدين منذ أبعد حلقاتنا، فالآلهة الأم ليست إلا مرجعا بهذا المعنى.كان الفنان الأول قد كشف من خلالها عن شدة ارتباطه بالأرض ومسببات الحياة. وفوق هذا وذاك كونها رمزا لتكريس غريزة البقاء، التي لا نجد لها من معنى أو وجود دون ثنائية الرجل والمرأة.
يبدو لي أن سعد علي لا يبتعد كثيرا عن ثيمة مركزية من هذا النوع، الأمر الذي جنب رسوماته من الضياع وسط تداخل الأساليب وتشظي الصياغات البصرية التي عرفت بها أوربا. لهذا فالفنان يتحصن في منطقة أمنة وعميقة الجذور ويجوز احتسابها تواصلا معاصرا مع ما أنجزه أسلافنا فيما قبل حضارة حسونة وسامراء وحلف..إلخ أي ما يزيد (5.600 سنة ق.م).
تطبيقيا وجد الفنان سعد علي ضالته في الأبواب الخشبية كفضاء عملي لممارسة أفكاره وصياغاته الإنسانية متخذا منها وسيلة مثلى في وضع مقترحاته الجمالية. وهي خصيصة وإن بدت شكلية غير أنه ذات مداليل مؤثرة تؤكد شدة الوشائج مع التاريخ الغابر الذي غالبا ما يجذبنا بفعل قوة سحرية. فالأبواب هذه تصبح لوحات لكنها تتكيف بفعل إرادة الفنان لينتهي منها بعد أن يتثبت من هوينه وأصالته معا. مشاهد الفنان سعد علي يغلب عليها الغرام الكاسح والعطش للحفاظ على الغرائز ساخنة، ملتهبة، ومهتدية معا.
الفنان قدر له أن يقف في منطقة وسطى بين التعبير والرمز، فتارة يرجح كفة التعبير وفي أخرى تكون السيادة للرمز، ومع هذا فهو لا يفرط ـ فيما يبدو ـ بمنزلة التشخيص التي تتخذ من الإنسان أنموذجا لبث رسالته. فعشاقه الذين يمارسون الجنس تحت جنح الظلام أو في وضح النهار، لا يداهمهم الإحساس بالحياء لأنهم يدركون على وجه اليقين أنهم قاب قوسين أو أدنى من ممارستهم إنسانيتهم.
وجوه أبطاله سواء أكانوا نساء أم رجال أم صبيانا ترشح بشرقيتها فيما تحف بهم مسحة فلكلورية وطابع زخرفي يراد به خلق أجواء ذات مرجعية شرقية. صحيح أن سعد علي يمارس سلطة ذهنية على إعادة ترتيب أشكاله، فهي من صنع خيالاته وليس للواقع فضل في الإجراءات الشكلية التي تحف بهم. فالفنان يكيف المشهد على هواه. لهذا فهو ينطوي على طابع تأويلي يقرره الفنان لا المشهد المختار.
وجوه أبطاله من الممكن العثور عليها في دروب العراق، فهي لا تتنكر لسحنتها وملامحها الدارسة. فالتاريخ يفعل فعله على المشهد حتى لو كان الفعل خفيا فهو بمثابة التميمة السحرية التي تطبع رسالته الفنية. وسعد علي يوحد في منهجه بين الأشياء ولا يفرق، يركب ولا يفكك. فأسلوب السرد لديه لا يقتضي تدمير الشكل إلا بالمعنى الذي يشد من أزر المشهد ويجعل منه بنية متلاحمة.
ونساء سعد مثخنات بالأنوثة والخصب لا يستعرضن أجسادهن أمام عابر السبيل مع أن مظاهر الكبت تنز من عيونهن السومرية الوسيعة. أنهن يعرضن جمالهن دون غواية، فالأجساد المكتنزة بقطوفها الدانية تخفي رغبة صريحة بالجمال المقدس لذاته، ومع هذا فوفرة مشاهد الجنس ليست إلا مصيدة للمشاهد كي يجوس في احتفالية سرية لتنبثق فيما وراء الجسد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– صحيفة القدس العربي / 10 تشرين الأول(نوفمبر) 1998

استعارات مستلهمة من التراث والأساطير

كريم النجار

للدخول في التفاصيل العديدة التي تحفل بها أعمال الفنان التشكيلي “سعد علي” المقيم في هولندة منذ فترة طويلة، يحتاج المرء دائما الأطلال على ميثولوجيا الشعوب والحضارات الضاربة بالقدم، فتكاد ل لوحة من لوحات الفنان تحمل مدلولا لأسطورة أو حكاية مروية أو تناولا لرمز أو تقليدا محددا. وهو يتمثل دقة الاستعارة كثيمة دائمة في أعماله منذ وقت مبكر وللآن أن يستلهم رموزه واستعاراته من التراث والأساطير والأمثال والفلكلور والجنس والصور الشعرية، وهذه في معظمها لم يتطرق لها الفنان العراقي بمثل هذه السعة والإفصاح، عدا استعارات من هنا وهناك. كذلك على صعيد الخامة المستعملة، حيث نلاحظ من النادر أن استفاد الفنان العربي من مواد مهملة وعديمة الفائدة يصقلها وينفث فيها الحياة محولا إياها إلى مادة إبداع، ومخلدا رمزها بهذا الشكل كما فعل “سعد علي” حين استلهم الأبواب القديمة الملقاة على أرصفة الطرقات، أو تلك المتروكة للزمن ليقبرها في دوامته. فالباب لديه رمز الدخول على عالم الأسرار والمحرمات والملذات وإيغال في نشوة الداخل. وهذا الداخل الذي يقفل في وجهك الأمل والحياة والحب. ففي الأبواب تكمن حريتنا في انفتاحها، وإلغاء وجودنا في انغلاقها.
تفتح بابا أثر باب، وتطل بتمهل من أول عتبة لتستكشف المخبوء. فالباب الأول تفتح على سر أول، والثاني يغويك بحركة الجسد الافعوانية ودعوته إياك لتشاركه هذا الانتشاء، والثالث يسحبك إلى داخل الذات لتستجلي يقينك ورغبتك وعريك، والرابع على عالم الأمل والأفق الإنساني الكبير. دائما الأبواب هي الحدود الفاصلة بين الذات والعالم الآخر، الشك والأغراء، حيث تتهتك الأسرار داخلها، وتلبس قناعا أسود في انغلاقها.
يكاد المرء يتلمس لحظة الحوار الجدلي لجسدين، حيث العيون الساكنة تنطق والأيدي إغواء آخر، والرغبة القصوى بركانا لونيا يحفل بلذة الاكتشاف. وهو هنا ايروتيكيا بالمعنى المقصود، بل يسمو بالجنس والإفصاح لتكون لغة نتلمسها وندركها أكثر مما نخاتل ونعيب انثيالاتها. فالباب ليس ستار حريم يخبئ خلفه فحولة واستعبادا. ففيه نرى المرأة تنساب كموجة رشيقة، لكنها ندا وتماثلا في ذات الوقت. كذلك تتميز أعمال “سعد علي” بروحيتها وسماتها الشرقية المستمدة من التراث العربي بعمقه الحضاري الزاخر والأجواء الخيالية الرحبة. ويستلهم في تكويناته الأشكال السومرية ذات العيون الكبيرة البراقة والأجساد المنسابة برهافة متناهية والرؤوس المتأملة والمتطلعة لأفق إنساني، كما يشتغل بحرية تامة في تكوين عالمه الجمالي الذي أكتسبه من خزين التراث ومشاهداته وتأثره بمدرسة بغداد للفن الحديث التي نلاحظ تأثيراتها في أعماله الخاصة التي تعتمد عملية التكرار والإيقاع المدهش، كما تستوقفنا تلوينات الملون البارع (الواسطي) وولعه الكبير بحريته التي بنى عالمه وأشكاله عليها. وحيث يقول أرغون (تبدأ الحرية حيث يبدأ المدهش) والمدهش لدى سعد هو الخزين الكبير الذي لا ينضب من القص الشعبي والعالم الشرقي الذي يسمو على الحقيقة ليؤسس فلسفة العشق الأبدي والمحبة الدائمة كرسالة إنسانية يحملها الفنان أينما حل.
لقد اختط طريقه وأسلوبه الخاص عدا بعض التأثيرات بشجاعة كبيرة، وثم نقله بأمانة إلى المشاهد الأوربي الذي أخذ يتابع أعماله باهتمام، سواء في معارضه الشخصية الغزيرة التي حققها في إيطاليا وفرنسا وهولندة وبلجيكا، أو مشاركاته في المهرجانات الدولية للفن، وهذا راجع بالأساس لأصالة الفنان وعمق جذوره. ولم يكن مقلدا فنان أو مدرسة بقدر تأثره بالفنون السالفة الذكر، إضافة إلى تأثره بألوان الفنانين الإيطاليين الحادة مع كونتراس مشبع برغبة حميمة للهدوء والسكينة.
وما استلهامه لثيمة العاشقين ودنوهم من الفاكهة (المحرمة) التي تمثل الرغبة المستعرة، والتماهي في جسدين في محاولة للانعتاق من سطوة فرضها الإنسان على نفسه وجعل لها حدودا بالرغم من عفويتها، وإشباع موضوعاته برموز تؤكد على فتنة الفنان الفطرية بالحرية وأصالة فيها عمق فلسفي مع الطبيعة والبشر والمتضادات، والخوف والرغبة والانعتاق، بصياغة تقترب إلى القصيدة الرومانسية والدراما التي تشاهد في تفصيلاته المحتشدة بقوة الحدث مع فخامة الديكور وتناقضاته اللونية التي تصدم الرائي في المشاهد الأولى.
بدأ الفنان أواسط الثمانينات بنقلته التالية نحو مشروعه الفني برسم حكاياته على الأبواب لتكون أعلانا دائما للمحبة والحرية. وإذ يعيد صياغة الباب لوحة تنطق بالزاخر من العشق والوله الإنساني، ليؤكد على عمق الجذور مع الطبيعة والبراءة والاغتسال بماء الحب النقي. وباب بعد آخر حتى تكونت أبواب الفرج. تلك الموضوعة التي وسمت معارضه العديدة في العواصم الأوربية. ومن الواضح أن الفنان “سعد علي” لم يحاول أن يغير من أسلوبه الفني أو ينتقل به لاتجاهات مختلفة، حرصا منه على ديمومة مواضيعه. فهي سلسلة حكايات، بدءا من أسطورة جلجامش إلى ألف ليلة وليلة، إلى قصائد العشاق والشعراء المعاصرين، إلى كليلة ودمنة. وبالرغم من إمكاناته التجريدية الواضحة في بعض أعماله، والمتفحص في أعماله الأخيرة، وبشكل خاص إذا تجزأت إلى أجزاء منتقاة سيشاهد في قسم منها تقنية تجريدية عالية، ومقدرة لونية لا يملكها إلا تجريديين كبار. وهذا بعض من تميز هذا الفنان على صعيد الإنشاء والتناغم التشكيلي وقدرة فرشاته على اختراق العوالم الصعبة. لكنه وبحسه الفطري الفراتي يبقى وفيا لأساطيره ورموزه التي تتعدد مصادرها، وفيا لحضارة وطنه. فبتناغمه الشعري وحزنه الأسطوري المتداول عبر العصور ومشاهداته ودراسته في إيطاليا (أواسط السبعينات) حيث التماثيل والرسومات في كل مكان خلقت لديه دربة وإحساسا وعفوية وتلقائية بارزة الملامح، بخطوط لينة واندفاع الأيادي الرشيقة بتراتبية للأمام، والعيون البيضاء الكبيرة الساهمة ، والأجساد المتلاصقة المتحدة بالأقدام والنظرات. كلها إشارات للرغبة الجامحة والمساواة بالسير على أرضية من فسيفساء هي هذا العالم الغريب المتشابك الذي يحمل صياغة الهم والدعوة إلى الهدوء والإخاء مع البيئة والبشر والحيوان والعالم باجمعه. وهذا سر تفوقه هنا في هولندة حيث تأثيرات رامبرانت وفان كوخ وفرانس هانس لا زالت قائمة للان، إضافة للأسماء الفنية الكبيرة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية وتمثلهم بجماعة (كوبرا) الفنية التي انطلقت كأكبر جماعة فنية حديثة في العالم. وقد أقام الفنان “سعد علي” بعض من معارضه على صالتهم الكبرى في أمستردام، إضافة إلى العديد من الكاليرهات والمتاحف التي تحتفظ بقسم من أعماله .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– صحيفة القدس العربي/نيسان (أبريل) 1999

لوحات ونصوص تحتفل بالمعاناة الذاتية
في خصوصيتها وتحولاتها

عمر شبانة

تشكل تجربة الفنان التشكيلي العراقي سعد علي، على الأقل كما تظهر لنا اللوحات التي ضمها كتاب “سعد علي وفن العلاقة” حكاية تشكيلية لـ”ألف ليلة وليلة” و “باب الفرج”، وفي قراءة الناقد ياسين النصيّر لهذه اللوحات، واحدة من أهم التجارب العربية في العقود الثلاثة الأخيرة، بما تشتمل عليه من رؤية لمشروع بصري تشكيلي، في أبعاده الجمالية والموضوعية، ومرجعياته الدامجة بين الواقع والموروث التاريخي والأسطوري.
بدأت بذور هذه التجربة في مدينة الديوانية، واستمرت في بغداد مع مشغل الفنان “هاشم الوردي” وجماعة الرواد، وانتقلت إلى إيطاليا ثم استقرت في هولندة، وعلى مدى زمني ينوف على ربع قرن، وتضمنت التجريب في إطار من الواقعية الجديدة التي تفيد من معطيات كثيرة ومدارس متعددة، لكنها استطاعت امتلاك خصوصيتها وهويتها على صعيد التشكيل كما على مستوى الموضوع، وتمثلت هاتان الخصوصية والهوية أشد التمثيل في العملين الملحميين “ألف ليلة وليلة” و “باب الفرج”، وهما العملان المستمران منذ الثمانينيات، والمفتوحان على آفاق جديدة.
يقرأ ياسين النصيّر هذين العملين قراءة تأملية تشريحية وتحليلية منسقة. قراءة تنظر في العناصر الأساسية، وفي التفاصيل والموتيفات الصغيرة، كما في التكوينات الصلبة والهلامية ذات الأحجام والكتل الكبيرة، وفي الرموز والخلفيات والمؤثرات ذات الأهمية الكبرى في هذه التجربة الغنية. يبدأ الناقد من ثيمة “العلاقة بين اثنين” في لوحات الفنان سعد علي، فيجد أن هذه الثيمة التي تبدو عادية، لم تستقر على تكوين لوني واحد، أو تنفيذ محدد، بل قامت على أساس تركيبي للمشهد، يركز على البعد المكاني الكامن في عمق اللوحة، كما ينفذ إلى أعماقها بعد تجاوز الخطوط “والأسوار” الخارجية القوية، وليكتشف أن العلاقة اللدنة بين “أجساد بلا عظام، بلا حجر، أجساد مملوءة عاطفة ووجدانا ..” هي علاقة توحد واندماج في لحظة واحدة، وليس بالضرورة أن تكون العلاقة حبا. ثم يلتفت الناقد إلى دلالة مهمة في العمل، هي دلالة خلو الأجساد من العظام ومن المشبكات الحادة بما تحيل إليه من معنى عاطفي. أما الاستطالات في الأيدي والأقدام، فهي دلالة على ما لها من فاعلية تميز البشر، وهي فاعلية احتواء من اللسان والعين. وثمة إشارة إلى تأثير البيئة الشعبية، من جهة، وتأثير مدرسة “كوبرا” من جهة أخرى.
وعدا هذه الإشارات التي تشكل علامات بارزة في لوحات سعد علي، يتوقف الناقد مع عدد من العناصر: الوجوه، العيون، الرؤوس، الوشم، الكائنات الطبيعية، الأبواب والشبابيك الخشب ..إلخ. أما التكوين والتشكيل والتلوين، فعمليات ترتبط وثيق الارتباط بمسار التجربة وبثقافة تضرب في اتجاه الموروث، بقدر ما تنهل من المدارس الأوربية الحديثة، ومن الفنانين الإيطاليين والهولنديين خصوصا، وحتى تبلغ أعلى درجات التجريد للوجوه البشرية التي أخذت من العام 1997، تفقد تفاصيلها الصغيرة فيما تبقى محافظة على هيكليتها السابقة، واشتباكها مع الجسد الآخر.
وجوه اللوحة قلما تلقي نظرة إلى خارج إطارها، إنها تطل على ما في الداخل لتستعير مناخها لنفسها، أو لتعرض نفسها على أمام الرسام عسى أن يكتشف فيها ما يؤهلها لتكون موضوع لوحة أخرى، التي تنطوي على قدر عال من التعبيرية، تبرز العينين وكأنهما تتبعان من داخل الجسد، وما موقعها في الرأس إلا لعلو المكان الذي تطل منه على العالم، فالرأس هو الذي يطل على اللوحة، رأس بعين واحدة تكفي لرؤية الحياة، حيث العينان جدل بصري لما تراه. وللجسد توصيف يذهب به بعيدا عن صورته المتجسدة في الدلالات المباشرة فهو ـ كما يدعوه سعد علي “الجسد التاريخي” الذي يحتضن تفاصيل مهمة تحت غطاء الإطار والباب، وحيث الإطار الخارجي ليس سوى عتبة للدخول إلى الدار بملحقاتها وسكانها، وبعد يبدأ البيت يمارس ثقله المعرفي.
ففي لوحته “صندوق الولايات” مثلا، يرى الناقد صندوق العجائز بوصفه أحد الرموز المهمة التي تختزن حياة ممثلة في الصرر والحرز والتعاويذ، وهذه تحمل تاريخا من الآلام المتخثرة بالظلمة وتراث الأيام. وهنا يتحول اللون ليستخرج باطن هذه الصناديق، وليعلنه في لغة لونية داكنة وبرتقالية، وكأن هذه الألوان ليست سوى ذكرى معلبة، وخلف الصناديق تكمن مستويات اللوحة اللونية، فالأرضية داكنة تتدرج ألوانها لتتقدم أمام بصرنا وكأنها تخرج من اللوحة إلى الرائي. هنا تبرز أحدى علامات غوص الفنان في الذات الاجتماعية، وهو أمر يؤكد المنحى الذاتي ذي الخلفيات الشرقية، حيث يتجاور تراث الشرق الإيراني والمصري القديم والصيني والياباني، وحتى فنون استراليا الحالية، خصوصا الرسوم المكتشفة حديثا فوق الصخور. ومن المؤثرات الأساسية، يبرز في المناخ ذلك العشق الخيامي (عمر الخيام)، وتظهر رسوم الواسطي. لكن ذلك كله مرتبط بواقع وحيوات عاشها ـ الفنان في العراق، وربما في أماكن أخرى، فكل أعمال الفنان ـ حسب تعبيره ” تعبير عن الجانب الروحي، كل ذات لها لونها الخاص،أنا أخلق الذي تعيش فيه، أما كيفية معيشتها فأمر خاص بها، أعني أن العلاقات الداخلية لها هي حريتها، عشقها، لا توجد جنان في الحياة، كل حياتنا جحيم، الجنة شيء خاص … النار هي العامة. لذلك لا أخلق شخصيات بلا عذاب روحي، بلا وجود، بلا أخطاء أو أخطار”.
ومثل كل العناصر، فللوشم هنا جذور، كما أن له وظيفة. فجذوره البابلية والسومرية والفرعونية والمكسيكية والأفريقية، تجعله غنيا بالرمزية ومحتشدا بإمكانات التأويل، ولكن الرمز الأول في القرى العراقية تعني ” تنظيف الجسد، من جهة، والوشم على جسد المرأة هو استمرار للأم التراثية، كما أنه ـ بألوانه الشذرية والسوداء ـ مدخلا للعواطف ومفاتيح للجسد، تخفف من صلابة المحيط الخارجي بما تمتلك من حس الأنوثة . و” فلسفة اللوحة الشعبية التي تتعامل مع المرأة ، تقول أن المرأة مهما كانت قوية بأنوثتها، لا يمكن أن تكون وحدها ـ الموناليزا كانت تتضمن الرجل أيضا ـ المرأة تحتاج دائما إلى رجل، الرجل يمكن أن يكون وحده في اللوحة … المرأة ولود، حتى الشيطان يولد منها، لذلك يصبح الوشم حرزا وعلامة على هذه الوحدة المركبة.
وحتى لو بدت أعمال سعد علي لوحة واحدة، في أجزاء، أو ثيمة واحدة في لوحات عدة، فإن الاختلافات في كل لوحة ـ بحسب الناقد ـ كثيرة. وعدا ذلك، ففي كل لوحة بناء يعتمد على موقفين، موقف الأعالي، المحلق، الفضائي، يشير إلى اللاإستقرار، وموقف الأعماق، واستعارة الصندوق دلالة على ذلك، حيث الحجر والقصر والقمقم والبيوت المظلمة والأسرار و … وهذه الصناديق التي تفتح أبوابها كما في الحكايات الشعبية، لينطلق منها روح الجسد المحصور، والموقفان معا يجسدان رغبة فنان يتأرجح بين عالم الجسد المحاصر، وعالم الروح المنطلق، وما بين العالمين يكمن “باب الفرج” الذي لا يدخله أحد من الخارج، بل ينفتح على الخارج كي يخرج من هو في الداخل.
ثمة إشارة إلى العمق الديني الذي يمتلكه فن سعد علي، ويتمثل في لغز الوجود، الوجود الذي تعد الممارسة الجنسية بداية له، فالممارسة هذه تتم عبر التداخل بين كتلتين: الأنثى والذكر، وللمشاهد أن يرسم، بواسطة البصر، رؤية لنوع الرجل أو المرأة، لكنه لا يستطيع تحديد ملامح أي منهما. وهنا تبدو الأشكال الإنسانية وقد اختصرها الفنان إلى نمطية تأليفية، وعلاقة تشيد مفرداتها المختلفة في كل ممارسة وجودية. وللجنس هنا خصوصية الجغرافيا التي يتحرك فيها، وهي جغرافيا الشرق كله، وبما أوتى من اختلافات قومية ودينية وعرقية، على رغم أن البيئة تتحول في العمل إلى وحدة وجود مغاير كليا لما هو في الغرب، لكن هذه الحسية لا يمكن تسويقها في الشرق، بل في الغرب الذي يمتلك ثقافة تستوعب تاريخ الأشكال والأفعال…
ويبقى ارتباط الفنان بجذوره عنوانا بارزا يبدو في ملامح ومعالم شديدة الحضور، حيث ” تجربتنا في إيطاليا وهولندة لم تقتلع جذورنا، تلك الجذور التي نبتت في الحزن الموروث والمعيش، ثم جاءت تلك الحروب لتعمق تلك الجذور. ترى كيف ينسلخ الإنسان من جلده ليرتدي جلدا أوربيا؟ أستطيع القول أنني استفدت من تقنيات اللوحة الأوربي، لكن موضوعي الأساسي ما زال مرتبطا بموروثي وبلدي وشعبي، وكل ما يتصل بآلامه وأحزانه … فصندوق الولايات المتحدة لا يزال يسمعنا صوته العذب كلما رغبنا في ذلك”.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ صحيفة الحياة، سبتمبر عام 2000

كائنات حُلمية تستحم بمطهر الحب المتساقط من الأعالي

عدنان حسين أحمد

لا يزال الفنان سعد علي منغمسا في مشروعيه الأثيرين (صندوق الدنيا وأبواب الفرج والمحبة)، وربما لن ينتهي منهما بعد عقد من السنوات. فالأفكار تتناسل في ذهنه، والصور تتداعى في ذاكرته، وهو كالمتصوف المنعزل في صومعته، منقطع إلى أسرار (صندوق الدنيا) ومفاجأته، وساقط في سورة الحب والذهول مثل أبطاله الهائمين على مياه الوجد والحنين، فلا العاشقات يتوقفن عن إغراءاتهن، ولا العشاق باستطاعتهم أن يكبحوا جماح عواطفهم المنفلتة. ورب سائل يسأل عن الجديد في هذه الحكاية المتكررة؟ والجواب على هذا السؤال المنطقي هو التنويع والنظر إلى هذه الحكاية من زوايا جديدة ربما لا تخطر على بال القلة من المبدعين. فلكل إنسان لمساته الخاصة التي يضفيها على جوهر الحكاية ومتنها السردي، ليفصح عما يعتمل داخله من مشاعر خاصة. والفنان غالبا ما يكون أقدر من غيره على إبراز هذه المساحة المختفية والمدهشة في آن معا. إن من يتأمل معرض الفنان سعد علي المعنون (سفينة الحب) والذي أقيم مؤخرا في غاليري (الصالون الأحمر) في أمستردام سيتلمس دون عناء كبير التطورات والنقلات النوعية التي حدثت على صعيدي الشكل والمضمون، فالفنان يسعى دائما لأن يمزج بين المبنى والمعنى، فالثيمة هي امتداد للشكل، والشكل لا ينفصل عن المعنى بأي حال من الأحوال، فالمشاهد الذي يمعن النظر في لوحة سعد علي سيكتشف أنه أخرج الإطار من وظيفته السابقة، بل أنه أصبح امتدادا طبيعيا لمضمون اللوحة، وربما نجد بعض (الفيكرات) وكأنها تحتضن الحكاية المرسومة في متن اللوحة، آخذين بنظر الاعتبار أن في لوحة سعد علي ثمة راو يروي الحكاية بطريقة سردية حالمة، لأن هذه القصص مستوحاة بطريقة أو بأخرى من (حكايات ألف ليلة وليلة) أو بالأحرى أنها حكايات الفنان التي نسجتها مخيلته اعتمادا على (الليالي العربية) التي بلغت ألف حكاية وحكاية، ولكن حكايات سعد علي لن تتوقف عند هذا الرقم، بل أعتقد أنه سيجاوزها بكثير لأنه يمتلك مخيلة متقدة، وروحا مشتعلة، وقدرة على النسج والتصوير، فهو قصاص ماهر، وراو لن تنضب ذخيرته.
الإحالات والمرجعيات الأسطورية
لا يميل الفنان سعد علي إلى التعمّق في دراسة الأساطير وتفكيكها، ولا يسعى شخصيا إلى تمثّل مرجعياته التي يتكأ عليها في مشاريعه الفنية، لأنه يحاول دائما أن يترك مجالا للدهشة، فليس بالضرورة أن يكون الفنان عارفا بكل الأشياء، لأن هذه المعرفة التفصيلية هي أحدى مهام الناقد أو الدارس. ففي داخل كل فنان أصيل مساحة من الفطرة التي تقودنا إلى نزعته البدائية التي لا تموت بتقادم الأيام. ومن هذا الحيّز الفطري تنبع الكثير من حكايات سعد علي، وهذا لا يعني أن الفنان غير قادر على النهل من المشارب الثقافية المتنوعة لكي يديم زخم معرفته، أو تحيز مخيلته، بل العكس أن الفنان يُتقن أكثر من لغة عالمية، ويستطيع القراءة بالهولندية والإيطالية والانجليزية وهو الآن منشغل بتعلم الفرنسية لأنه قرر الإقامة في ضواحي باريس منذ عام ويزيد، وهو لم يغادر الساحة الهولندية كما يظن البعض، لأن حضوره فيها يترسخ يوما بعد يوم، ومعارضه تقام سواء في بينالي أمستردام، أو في صالات هولندة الأخرى، كالصالون الأحمر أو (سميلك أند ستوكنك) و (فورته) وغيرها من الصالونات المهمة. فالمصادر والمرجعيات متوفرة، وبإمكانه العودة إليها وقراءتها قراءة تفكيكية، ولكنه ليس بحاجة إلى معرفة التفاصيل الدقيقة، لأنه يحاول أن يخلق تفاصيله الخاصة، كما خلق حكاياته وأساطيره التي تنتسب إليه دون ريب، فهذا المعرض الذي أسماه بـ (سفينة الحب) له مرجعية تاريخية ومثيولوجية وهي (سفينة نوح) غير أنه ألتقط من هذا النص الديني فكرة استدعاء فئة معينة من الناس، لا أظن أن المتلقي عاجز عن التقاط هذه الشريحة البشرية الهائمة على بحر الحب. فالفنان لم يتعب ذاكرته بطول السفينة وعرضها وغيرها من القضايا التي اختلف عليها الرواة. فسفينة الحب ستنقل على متنها عشاقا أبديين، وربما لن ترسو هذه السفينة على بر، لأن سعد علي يتمنى لعشاقه أن يظلوا عائمين على بحار الوجد وأنهر المحبة. وللإشارة فقط أقول إن أغلب لوحات هذا المعرض تعوم على مياه هادئة، وأمواج متكسرة، فما يهم الفنان من هذه الحكايات الدينية والأسطورية هو بؤرتها أو نواتها فقط أما البقية فهو كفيل بها، فما أن يقدح زناد مخيلته المتأججة، وذاكرته الحادة حتى نراه يؤثث اللوحة بموضوع جديد ومبهر أيضا. وهذا الأمر ينسحب على (صندوق الدنيا) و (وأبواب الفرج والمحبة) فهو لا يكرر الحكايات الشائعة بقدر ما يريد أن يسرد لنا حكاياته وأساطيره التي نسجها بعد جهد جهيد، فحكايات ألف ليلة وليلة ليس في الذاكرة العربية والإسلامية فحسب، وإنما هي مستقرة حتى في الذاكرة العالمية، وقارئ هذه الحكايات قدر دونما شك أن يتخيل المنحى التشكيلي \البصري لهذه القصص، إن لم تكن هي نفسها مدججة بتخطيطات ورسومات داخلية مصاحبة للحكايات العرابية.
شفرات الشكل وأقنعة المعنى
منذ سنوات عديدة والفنان سعد علي متشبث بفكرة الأطر الجاهزة التي تأتي مع الأبواب والنوافذ الخشبية وبعض التكوينات الأخرى التي يشذبها ويحسنها الفنان بما يتلائم مع الأشكال المفترضة في مخيلته البصرية، فأغلب الأطر قد تحولت إلى فضاءات مضمونية جديدة، بل أنه تعمد أن يفصل بعض اللوحات المستطيلة بحاجز خشبي طولاني يعزل العاشقين عن بعضهما البعض، ولكنهما لا يبعدهما عن دائرة الحب تماما. أما الموضوعات فقد توزعت بين الحب والحلم، وقد عول كثيرا على العلاقة الداخلية التي تربط فيما بينهما، وإذا كان البهلول قد ظهر في معرضه السابق، فإننا نلاحظ حضور الراوي في معرضه الجديد، كما نلاحظ هيمنة (فكر) جديد يمثل ذاكرة الناس والتاريخ على حد سواء، وهو بمثابة الشاهد الأمين على هوية عصره.
إن المتتبعين لتجربة سعد علي سيكتشفون غياب الحيوانات التي كانت تشكل (فيكرات) في معظم لوحاته، وكان العشاق غالبات ما يسربون أسرارهم إليها دون أن ينتابهم الخوف من ذيوعها لأن الحيوانات لا تستطيع أن تفشي سرا، أو أنها رمز للوفاء، وموضع للأمانة كما يرى الفنان، غير أن جديده هذه المرة هو ظهور (المرآة) في عدد من لوحاته، وهي رمز لنرجسية الشباب. فالعشاق غالبا ما يتطلعون إلى المرايا التي تعكس ملامحهم النابضة التي تضج بالحياة. كما نلمس الأجساد المتداخلة التي ترتدي قناعا واحدا أو جسدا يرتدي عدة أقنعة في الوقت ذاته، فيما تبدو الأجساد مرنة، لدنة، مطواعة، ممطوطة وكأنها خالية من العظام. هناك عري مخبأ خلف الوشم والزخرفة اللونية التي يتميز بها الفنان سعد علي، وهناك أجساد بضة تستحم بالورود، أو بمطر الحب الساقط من أعالي السماء. بينما ظلت الصواني محملة بالشموع المتقدة التي تضئ كرنفال الألوان الشرقية الحادة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– صحيفة الزمان، نوفمبر 2000

الغجري المتفائل
معرض الفنان سعد علي
ياسين النصيّر

1
               أفتتح في 25-2-0002   كاليري “سميلك وستوكنك” في  مدينة لاهاي المعرض الجديد الذي يستمر إلى 2-4-00  للفنان الدؤوب سعد على الذي اتخذ من هذا الكاليري مجالا لأن يطل به على جمهور أوربي واسع، لما يتمتع به الكاليري من سمعة دولية وأوربية واسعة. لمسنا بعض وجوهها في الافتتاح الذي امتلأت به صالة الكاليري فباع نصف لوحاته البالغة 30 لوحة في يوم الافتتاح.. سعد علي الذي اتخذ من فرنسا وريفها سكنا بعد أن أمضى في هولندا ثماني سنوات، ظهر تأثير هذه النقلة واضحا على لوحاته التي تميزت في هذا المعرض بصفاء اللون والتعامل بدرجات حسية متدرجة للون الواحد خاصة اللون الوردي،  فغير الكثير من طريقة خطوطه الحادة  السابقة التي تشكل حاجزا في التمازج بين شخصيات لوحته، لتبدو في هذه المعرض نساءه  وهن في حال من نشوة مطلقة متحررات من قيود من كان يحيط بهن في لوحاته السابقة، حيث أن لوحة سعد ليست إلا حكاية تروى داخل إطار، وعلى هذا الإطار رسم شخوصا يستمعون للحكاية كي يرونها للآخرين بطرق مختلفة أنه كان يعيد تشكيل حكايته كي تروى وتسمع، هذه المرة لم يعد بحاجة لمستمع، بل بحاجة لشخص أخر يروي حكايته الجديدة بعد أن جعل اللوحة منفتحة على أفق واسع وقد شطر معظم لوحاته إلى فضاء أعلى حيث اندمج بسماء مغلقة وفضاء أسفل حيث انفتح على بحر أو بيت. هذا العزل المكاني للوحة جعل شخوصه بألوان وبحركة بعد أن كانت حركة الجسد  الداخلية هي الفاعلة مما مهد لأن يداخل على ألوانه الوردية ألوان  الأزرق والأخضر والرمادي، الأمر الذي يدفعنا للتأمل أن اللوحة الجديدة امتلكت طاقة الأفق  والحساسية الشعري خاصة أن هذه الألوان تتدرج في علاقة شعرية متناسبة. بعد ما كانت محصورة في إطار الباب أو إطار البيت أو الفراش الذي غالبا ما كان بساطا بتقسيمات شطرنجية.  في هذا  المعرض اندمج الإطار الخشبي الصارم في لوحاته السابقة،  ببنية اللوحة الداخلية، ولم يعد مكمناً لمن يتنصت على ما يجري في داخل اللوحة من حوار وحديث، بل جعله حاملا لشخوص يروون هم أيضاً حكايتهم الناقصة، لقد حولهم من هامشيتهم إلى مركزية فاعلة لهم. هذه النقلة تعد تطويرا لمفهوم الشخصية الشعبية بعد إن كانت شخصياته من الملوك والرواة الكبار. ورافق هذه النقلة حسا جماليا باللون والبروز عندما جعل منه في الواجهة الأمامية وكأنهم يتقدمون اللوحة مشكلين بعد أفقيا في مناخ عام غير محدد بإطار. وبرز بينهم  البهلول بخيال شرقي طاغ ليؤكد حضور هذا المهرج الشعبي في تركيبة شرقية لا تتجرد من إرثها القديم الذي بدا هنا بأثواب وأشكال حيوانية وبشرية، وبهيئات مختلفة، وبلون مميز غلبت عليه الدكنة،  وبخطوط حادة لا ليروي بل ليؤكد الحرية التي يمارسها علاقته المتحركة مع الزمن. وقد تمثل ذلك باللون السماوي أحيانا حيث الأفق، أو بلون البحر الذي يعيد تشكيل الحكاية القديمة في أفق من انسيابية لونية وسط استرخاء شخوصه. أو تعامل تشكيلي غائر في أجواء خلفية فيها من سحر العتمة ما يوحي بوجود شخوص حولنا دون أن نراهم. إنه الشرق الذي يتمظهر في لوحات عدد كبير من الفنانين الأوربيين ليس بحرارة اللون ولا بصفاء السماء  ولا برمادية الرمل وزرقة البحر، إنما في التوظيف الخيالي للطاقة التي تملكها الكتلة والأشكال وهي تعيد خلق مكوناتها من جديد وفق تداخل وتأثير بين حس شرقي آت إلى الفن الغربي من خارج ثقافة الاستشراق، وحس فني تمنحه أنبوبة اللون نفسها عندما تنطلق بحرية اليد على السطح دون أن تحسب لحدود الشكل مساحة ما، هذه الحرية نجدها تأتي الفنان الغربي هذه المرة ليس من خلال ما يقدمه عدد من الفنانين العرب الذين بدءوا ينتجون أعمالا تتوزع الآن عددا من كاليرهات لاهاي وأوترخت وأمستردام، بينهم الفنانين بشير وبها أحمد وقرني وقاسم الساعدي وسلمان البصري وعلي طالب وعفيفة لعيبي ومحمد حسين عبد الرحيم وغيرهم، إنما من خلال التركيبة الثقافية لمدينة كموسبوليتية تمنح ثقافة الآخر حضورا مميزا وقد نشأت كاليرهات تعتمد هذه التعددية في العرض لثقافات الشعوب بينها كاليري كادانس في لاهاي نفسها.، هذا التداخل الأسلوبي بين فن غربي بتقنية عالية، وفن شرقي بخيال مكنه  من  أن يملأ جزء من طبيعة المدينة الغربية. و الفنان سعد علي الذي تطور تطورا واضحا في السنتين الأخيرتين بدا لنا أكثر فهما لحاجات المشاهد الغربي، ليس من خلال ترطيب خياله الصناعي بالخيال الشرقي، إنما من خلال تعامله مع الثقافة الغربية من داخل عين الفنان الشرقي فيشكل بذلك رؤية جديدة له.
 
 
2
        في سياق التعريف بالفن الشرقي في أوربا، تتضافر جهود عدد من الفنانين الذين قذفتهم الحياة إلى أوربا هربا أو طلبا للعلم في أن يظهروا فنهم وهو نقي من التأثير الغربي عليه. وفي حوارات عدة مع فنانين ونقاد لمسنا الرغبة لديهم في تأكيد هذه الظاهرة من خلال ردفها بوعي نقدي يمكنه أن يرسم صورة أخرى لفنون الشرق العربي من خارج أطر التقليدية التي ما تزال سائدة في إنتاج عدد كبير من الفنانين العرب خاصة المغاربة الذين وجدوا منذ زمن أن الفاصل جد قصير بين ثقافتهم العربية المشربة بمناخ فرنسي وتعليمي وبين الفن الغربي الذي تعامل مع المغرب العربي كما لو كان امتدادا لثقافة الغرب.
      في تعامل الفنان سعد علي مع هذه الظاهرة لا تبدو هناك ثقافة مسبقة لدية كي يتعمل مثل هذا المسار، فثقاته لا تتعدى التعامل اليدوي مع اللون، وهو تعامل فيه من الفطرية الشيء الكثير،  إنما هي الخبرة التي كسبها طوال ثماني سنوات في إيطاليا وهو يفترش الساحات لرسوم البورتريت،  والذي تطور عنده إلى تشكيل درامي يعتمد الحوار بين كتلتين على أرضية واحدة، ليعيد هذه الفكرة التشكيلية من خلال اكتشافه لحكاية باب الفرج الذي تعتمده الميثولوجيا الشرقية المرتبطة بين أرض بمشكلات وسماء بحلول. وباب الفرج لدية مساحة من التأمل في القضايا المبهمة، لذلك كان حوار شخصياته دائما منقطعاً عن سياقه لوجود من ينقل، ومن يتنصت، ومن يكذب، ومن يصدق. ووسط هذه المعلومة المتأتية من الحكي، وسع سعد إمكانية أن يكون باب الفرج إطارا لتسويق رؤية شرقية لفن الحكي تختلف عن سياقات  رؤية الكتب والمصدرية الثقافية والانطباعية العادية المتأتية من حوارات السواح الذين ينقلها لهم من يزورون الشرق أومن تتلمذوا على ثقافة المستشرقين. ويبدو أن سياق تطور هذا الفنان هو سياق البحث عن الحرية اللونية التي تبدو هنا هولندية بسيطرة الوردي كمناخ شعبي عام على فضاء الحكاية المبهم. هذا اللون ليس شرقيا، ولا هو عربيا، إنما هو تركيبة من تصور فنان فهم أن ثقافة المشتري الغربي، مهما كانت قدرته على التمييز بين لوحة ولوحة وإنتاج وآخر ، لا بد  من ربط محليته بأفقها المعرفي الكبير.وهكذا نجد أن اللون الوردي منسجم وثقافة المشاهد، وفي الوقت نفسه تعبير عن وردية العلاقة بين شخوص اللوحة الممتلئة غزلا دراميا. بمثل هذا الحس اللوني الشرقي –الغربي، وسع سعد علي من قدرة الإيحاء باللون، ومن قدرة التعامل مع تركيبة لا شعورية تتحكم بالسوق الفني.
 
3
      في هذا المعرض الذي جمع فيه بين أعمال منتجة عام 98 و99 ، كانت هناك رغبة خفية في التعامل مع فن الأيقونة، خاصة في الإطار وفي البنية الشكلية للوحة. الأيقونة الغربية لها تراث عريق في ثقافة الفن الغربي بل وشكلت مع الفن القوطي خاصة في مجال العمارة تصورا عن هيكلية الديانة المسيحية وعن عظمة التصور الديني وتأثيره في الحياة الغربية، خاصة في القرنين السادس عشر والسابع عشر، لكن هذه الثيمة عندما تدخل ميدان فنان عربي بثقافة شرقية وبتصورات غربية، يمكنها أن تعيد تصورا عاديا عن العلاقة غير المستقرة بين فنه وحاجة السوق، هنا ندخل في ميدان التسويق الذي يعتمد في أوربا على ثقافة البيوت وحاجتها إلى التزيين، الأمر الذي قد يغري الفنان في الاستجابة لمثل هذه المتطلبات، وهو أمر وجدنا تأثيره واضحا في عدد من اللوحات الصغيرة التي بنت هيكليتها على فاعلية المنمنمات الصغيرة وكأنها قطع تزينية لا تباع إلا مجتمعة، وفي لوحات أخرى بنى لوحته على فاعلية إطارها الدائري الذي ضمنه البنية الحكائية نفسها، ولكنها بدت هنا كما لو أنها نقلت من مناخها الشرقي بفضائه البيتي الواسع إلى فضاء المدينة وحاجاتها المعلقة على الجدران الصغيرة، هذا الحس لا نجده مهما في تجربة الفنان في هذا المعرض وليس له أي فاعلية فنية له.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مارس ـ 2002
                     

سعد علي فنان ديكور عذب

موسى الخميسي

الفنان سعد علي يصر على الحرص على تقاليد اللوحة الفنية، وعلى منحها الصفة العراقية بعد التغيّر الذي ساد في الآونة الأخيرة لخصائصها في أعمال كثيرة لفنانين عراقيين في الخارج. فهو يعتمد أسلوبا رومانسيا يحيك فيه صياغاته العشقية الرهيفة كأنه يعطي الموضوع الذي يتناوله إجابة تصويرية أخلاقية، إذا تركز إجاباته الرومانسية على نواح تكاد تكون شخصانية لتساؤلات تبدو لبعضنا تقليدية. موضوعاته تتفق مع غنائية الطبيعة الرومانسية لحالات عشق يريدها عراقية وإن وضعت في إطارات غربية واقتفت مؤثرات فنية هندية. عارياته هن إجابة عن سؤال أبدي : سؤال الحس الجنسي. فقد جدد الموضوعات العشقية ليعيد مسارات دلالاتها التي تزخر بها الأنفس، وإن كان الموضوع الذي يبدو للناظر بعض الأحيان وكأنه متكرر، إلا أن هذه الإجابة ليست سطحية.
إنه يموه أسلوبه التأثيري، المتسم بالطلاوة والظرافة الحلمية التي تمتلك اتزانها وصفاءها، بتناقضات وتوافقات لمظاهر العلاقة بين الرجل والمرأة باعتبارها موضوعا أساسيا يبني عليه أعماله. فهو يتوقف عند هذه العلاقة التوافقية الحالمة باعتبارها ظاهرة مرئية ليذهب بعيدا من خلال جعله العمل الفني تجسيدا للشعور والدلالة والرمز.
إنه فنان ديكور عذب تحمل لوحاته طابع النغمة المتحققة التي تزحف أحيانا إلى خارج سطح اللوحة لتعبر إلى إطارها وإلى أطراف الباب والشباك الذي كان يجده مرميا في الشارع ليتأبطه نحو مرسمه، ليكون أساسا لبناء عمله الفني. إنه يجسد حقيقة سايكولوجية معينة تعبر عن إدراك الضياء العاطفي الذي يختزنه، وهي بالتالي زاوية عاطفية تمتلك تماسكها الظاهري ونزوعها الثوري الجسدي الداخلي، وهي توليف شعري متناسق لمكوناتها المختلفة. إنها لوحات تضئ النفس في أحيان كثيرة إذ أنه يمازج في أعماله جميع التيارات الحديثة والقديمة في الفن. لقد طور تكنيكا بارعا يبتعد عن الضوء والعمق، ويميل أكثر إلى الاقتراب أكثر من سطح الرغبات الجنسية الدفينة، كما أنه يركز على الخط الثقيل القوي المتدفق الذي يربط الأشكال في أنموذج وحيد ليعطي انطباعا لعالم مرسوم غير حقيقي لكنه مثقل بشحنة الانفعال. فهو على ما يبدو متيقن من مقولة الفنان كاندينسكي: ” الخط العمودي المرتبط بالخط الأفقي ينتج صوتا دراميا”، فالأشياء عندما لا تكون جميلة أو قبيحة، مفرحة أو حزينة إلا في زمان ومكان يقرره هو، إذ أن التحرر من الفرح الإنساني وعشقه لا يعني عند الفنان سعد علي إلا التحرر من الحياة، أو هو بمعنى آخر الموت، الطبيعة الحسية الملموسة تنعكس بفكرة ميزتها الحية، وسعد يدافع على ما يبدو عن حاجة صوره لأن تكون حية من خلال تقديمها إحساسا ملموسا وإدراكا حسيا بالرغبة التي يحملها في جوانحه بعنف وقوة.
لوحاته، القائمة على أولوية السطح الملون والزخرفي المأخوذ على الدوام باللون الأحمر ومشتقاته، تمتلك رقة كبيرة يمكن للمرء أن يكتشف من خلالها الروح الخفية لعوالم أخرى تعبر عن رغبات مكبوتة، إلا أنها غير منفصلة عن حلم الإنسان، وكأنها قص ملحمي يقنع أشد الإحساسات توترا، يتحرك في أحيان كثيرة كاستعارة لوحدة الإنسانية التي تمثلها حالة المرأة الملتصقة على الدوام بالرجل.
تزخر لوحاته بالوجوه والأجساد باحتفاء تشكيلي ممتع يمنحها حياة في عوالمها الخلاقة، ويشكل استكمالا لحياة عشيقة استثنائية تتوق إلى أن تصل بكمالاتها ومطلقاتها ولحظاتها وبالتحقق الحالم الذي يريده من خلال وجدانه الذي يتنبأ بأحوال اللحظات المثبتة بأناقة الخط ورهافة اللون وبنشوات سحرية. إنه يمارس لعبة شائعة، لكنها غير مشوهة الشكل، لعبة متعثرة تكشف عن عريه الداخلي، وأيضا تماسكه ورزانته أمام مثل هذه المخلوقات المسيجة بوحدتها والمعتدة على الدوام بخلع جلودها لتحيا من جديد، وكأننا بها دمى إنسانية متحركة على مسرح أعمدته ومساحاته حالات قصوى للعشق، ملونة بتأن يعطي انطباعا بأنها مسيرة ولربما مبرمجة لتلف وتدور ثم تعود من حيث بدأت. كل أشيائه مرمزة ومرسومة بشكل مبسط حتى السذاجة تعوم في فضاءات تائهة، في مساحات مسطحة لا تتحمل كثافة بشرية، وهي ممتلئة بالبراءة الظاهرة لحد التصوف، وربما بكيد مشبوه لتحتل المشهد.
في ألوانه المقتصدة إضافات خطية غير مقروءة تشكل قاعدة بعيدة كليا عن التشابك، ويجد فيها المتلقي تلك الحساسية التي ترتجل إيقاعاتها الروحية، فهو يكشف بوضوح عن عرينا المحتمل بوساطة عريه المفضوح بحياد تبصره في التخيل من خلال التحليق بالواقع أو بالحلم. سعد علي يمزج اللذة وعذوبتها بالحلم الجنسي الملتبس الذي يزيح عن نفسه الكثير من الغموض بوساطة كيانات قابلة للتأويل وبكشوفات جمالية مباشرة أخاذة، وكأن ما يقدمه هو متعة بصرية مباشرة تمتلك القدرة باستمرار على الاتساع في كل مرة نلتقيها لنعيد قراءتها من جديد.
لوحاته تمثل صيغا انتهاكية تعبيرية لا تخلو من جرأة كبيرة، يزجنا عبرها في مواقع الحيرة والألم والحزن واليأس والشقاء والحرمان واللوعة الإنسانية، ليصدم مزاجاتنا الساكنة أحيانا وليضعنا أمام حالات من الترف في منطقة حساسة من مناطق التلقي، إلا وهو الرغبة الدفينة في كل منا، دون غموض، وبتقنيات ساحرة متأنقة لا تعرف السكون، لأنها صياغة من النوع الذي يصدم المشاهد ويجعله يستجيب لوعي بصري نافر ومفارق وحتى مضاد. إن سعد علي الذي يملك الكثير من الهدوء والتسامح ويلج إلى الحلم من أول أبوابه، يفصح عن أجزاء خافية من شخصيته المستفزة بأعماله الفنية لما نتمناه ولما نحلم به دون مساومة، بل بإمكانية الاستباحة المفاجئة المحببة في مخاطبة رغباتنا المدفونة والمقموعة، فهو يحرص على هذه اللذائذ البصرية بوضع جسر ماء بين ما هو حسي وبين ما هو حدسي، فالإنسان لديه يغفو على لذائذ الجسد وخفاياه غير المرئية، وهو باعتباره فنانا يقوم بعملية الحفر الجميل ليطلعنا على ما يكمن تحت سطح الرغبة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
– كتبت عام 2005

عذوبة المعنى ونظارة التشكيل

محمد مهدي حميدة

يحمل الخطاب البصري للتشكيلي العراقي “سعد علي” كثيرا من المعاني الإنسانية النبيلة والراقية التي تسمو بالذائقة الحسية، وتحملها على الدخول إلى عالم مفعم بالإشراقات اللونية المبهجة التي تستلهم من كل الأطياف الضوئية المحيطة ما يمكنه من تحقيق نص جمالي شديد الثراء والتميز.
إن المشاعر الأكثر نبلا في حياة الإنسان وبخاصة تلك التي تتعلق بمعاني عذبة خالصة كالمحبة والخصوبة والأمل هي من أبرز المعاني التي يشتغل عليها الفنان في كل المراحل الزمنية المكونة لمشروعه التشكيلي الضخم. تحفل بالجميل والراقي من الأفعال الإنسانية وما يحيط بها من أجواء مكانية شديدة الاختزال، يذهب الفنان في تصويرها عبر مساحة لونية (كالأحمر أو الأزرق أو درجات مشتقة من اللون الأصفر أو الأخضر أو مجموعة من الألوان المتداخلة) تحتل خلفية المشاهد بأكملها مع وجود بعض المفردات أو المعالجات البسيطة التي تشير إلى الأرضيات الموجودة في هذا المشاهد، والتي تشغل مساحات صغيرة في الجزء الأسفل لكثير من اللوحات حيث تظهر لنا مجموعة صغيرة من المربعات المتجاورة والتي تتألف غالبا من لونيين يتم توزيعهما بالتبادل فيما بين مربع ومربع تال له أو ربما تكون هذه الألوان ثلاثة أو أكثر. وعليه فإن العالم المحيط بالشخوص والموجودات الأخرى التي يحتوى عليها النص البصري يتكون فقط من خلفية لونية وأرضية شديدة البساطة وربما يحيط هذا العالم إطار به بعض العناصر النباتية والطيور والشخوص البشرية إضافة إلى عناصر زخرفية قليلة منفذة بأساليب فنية بسيطة بحيث هذا الإطار الخارجي المصور امتدادا نفسيا لذات العناصر والألوان المستخدمة تمنح هذا الإطار نوعا ما من التمايز الملحوظ إذا ما قورن هذا الإطار بمتن اللوحة وما تشتمل عليه. ولكن لا يمكن تعميم هذا الرأي على كافة اللوحات فالإطار وما يشتمل عليه من عناصر يكون هو نفسه امتدادا للمتن الأساسي بحيث يُنفذ بذات الألوان كما أن العناصر والأشكال المكونة للمتن الرئيسي وموضوع اللوحة تمتد خلال مساحة الإطار لتكتمل خارج حدود المتن المشتمل عليها وتنفذ بذات الأسلوب الذي يعتمده الفنان في عمله، وهنا يحدث تلاحم حقيقي وتوحد بين الإطار والمتن، ولكنه ليس توحدا كاملا من الناحية اللونية حيث يلجأ الفنان لاستخدام درجة لونية مختلفة نسبيا في خلفية الإطار تؤكد نسبة يسيرة من استقلالية هذا الإطار الذي لا يقف هنا حائلا أما اكتمال الرسم المنطلق من الداخل إلى الخارج، أو من الحيز الرئيسي المفترض إلى الحيز الإضافي الذي يصنع حدوده الخارجية المؤطرة لمحتوى النص التشكيلي.
الملفت للنظر حقا أن هذه الشخوص والمفردات الأخرى داخل تلك الإطارات تتوزع في بعض الأحيان بما يوحي بأنها متماثلة فيما بين نصفي اللوحة الرأسيين فمثلا رسم لأحد الشخوص في الإطار الأيمن يقابله رسم لشخص آخر في الإطار الأيسر – ولكنه ليس هو الشخص المرسوم ذاته – وأيضا رسم لطائر يقابله رسم لطائر آخر وهكذا دون أن يعمد الفنان إلى رسم هذه العناصر المتقابلة بذات الشكل ولكن ما يعمد إليه حقا هو التماثل في توزيع هذه العناصر تبعا لنوعها على كل من الجانبين ولكنه يمنح نفسه مساحة غير قليلة من الحرية التي بها لا يمكننا العثور على أوجه شبه كثيرة فيما بين عنصرين متقابلين من نفس النوع الواحد سواء من ناحية الشكل الذي يظهر به هذا العنصر أم ذاك أم المعالجة اللونية لكل منهما على حدة.. والإطار هنا يستلهم فكرة التماثل الموجودة في التراث الزاخر في القيم الموجودة في أغلب فنون الحضارات الرافدينية القديمة وكذلك الفنون العربية الإسلامية، ولكن إن المعالجة الأسلوبية والطرح الشكلي والجمالي يمتازان بنوع من الخصوصية الظاهرة لنا بوضوح جلي.
في حلول تشكيلية مغايرة يتحرر الفنان من فكرة التماثل تلك عبر عدد آخر من الإطارات الخشبية الخارجية التي تبدو لنا في نسق تصويري جديد – وربما تبدو دون تصوير أيضا – وتحيلني فكرة الإطارات تلك وهي التي تنسج بشكل أساسي عمارة اللوحة – أو بنيتها الهندسية – إلى فكرة تصوير المشاهد المعمارية الداخلية والخارجية معا في المصورات الإسلامية، وهو ما يتوازى بشكل أو بآخر مع المكون المعماري الرمزي المجرد التي يبدو فيها الإطار كما لو كان هو العالم الخارجي الذي يطل من كل جنباته على العالم الداخلي حيث يدور الحدث بين الشخوص فوق ذلك المسطح الصغير الرامز إلى الأرضية فيتكون المعنى المراد طرحه عبر علاقات حركية مرنة بين هذه الشخوص الحاكية لكثير من الأفعال النبيلة التي تمتاز بتفردها وعذوبتها في الوقت ذاته.
ولد سعد علي الزبيدي في مدينة الديوانية بمحافظة القادسية في أول تموز (يوليو) عام 1953، ودرس الرسم في مشغل (مرسم) الفنان هاشم الوردي بالكاظمية حيث تعرف على عدد من أساتذة الفن، وتأثر الفنان – على حد قوله – بالمدرسة الواقعية البغدادية ومدرسة جواد سليم للفنون وما فيها من تأثيرات أوربية انصهرت في تراث الفن العراقي، وفي بداية السبعينات شارك في العديد من المعارض التي أقيمت بالديوانية وبغداد بمقر جمعية التشكيليين العراقيين وقاعة الفن الحديث (كولبنكيان) ثم سافر إلى إيطاليا في منتصف السبعينيات للدراسة في بيروجا بفلورنسا – في المدة من 1977 إلى 1981 – على يد الفنان الإيطالي (فروا) الأستاذ في أكاديمية الفنون الجميلة في فينيسيا، وقد عاش الفنان وعمل في فلورنسا وامتلك أستوديو في (حي الفنانين) إلى نهاية العام 1985، وبعد ذلك هاجر إلى هولندة ليقيم هناك ويعمل في مرسمه بمدينة أوتريخت، ومنذ العام 1967 دأب الفنان على إقامة المعارض الشخصية التي تضم أعماله إضافة إلى المشاركات العديدة في المعارض الجماعية والعالمية، وقد حملت معارضه الشخصية كثيرا من العناوين الدالة نذكر من بينها: محبتي لعزيزتي، أبواب الفرج، غناء وطيور، هارمونية هادئة رائعة، الجنة السعيدة عند سعد غلي، في اللهيب والوهج.
في مشروعه التشكيلي يحتفي سعد علي بالطاقة البصرية التي تضئ المكان وتدعو إلى المشاركة بين من هم خارج النص البصري وما يطرحه من معاني في داخل الحيز التصويري عن طريق فعل المشاهدة الذي يشرع الباب أمامنا لرؤية جانب مشرق من الفعل الإنساني الراقي فشخوص الإطارات سواء كانت شخوصا كاملة أو حتى رؤوسا فقط نجدها طوال الوقت في حالة إبصار لما يحدث في متن اللوحة، ومعها نشترك نحن أيضا في إحداث الفعل الإبصاري ذاته وكأننا نحن امتداد للوحة أو اللوحة هي امتداد لنا بما يخلق نوعا من التوحد الجميل مع النص البصري. وهنا لا يمكننا بأي حال أن نعثر على شخص واحد مغمض العينين خلال هذه اللوحات الكاشفة التي تبدو الأعين بها كما لو كانت وحدات إضاءة قوية تضئ المشهد بأكمله، إنها أعين سومرية شديدة الأتساع جاءت من الماضي لتمنح اللوحات بكل ما تشتمل عليه من أحداث عمقا تاريخيا إضافة إلى دلالتها التعبيرية وهو ما يضيف للوحة أبعادا زمنية وجذورا أصيلة مما لا شك فيه ستؤثر بطريقة أو بأخرى في عمق الخطاب التشكيلي ودلالته المختلفة، ولا يكتفي سعد علي برسم أعين الشخصيات المتسعة فقط ولكنه يرسم في كثير من اللوحات العين المتسعة ذاتها منفصلة عن بقية الملامح لتظهر بحجم كبير عبر المسطح التصويري بما يجعل تلك النصوص البصرية نصوصا كاشفة لما يعتمل داخل الإنسان من رغبات بوجوده وتناسله واستمراره النوعي في هذا العالم حيث تبدأ فكرة الاستمرار تلك والمحافظة على النوع الإنساني من لحظة استمتاع ولذة خاصين جدا.
في عدد من لوحات الفنان تبدو لنا الخلفية التي تدور أمامها المشاهد المصورة في نسق مغاير لما كنا قد طرحناه أنفا بحيث لا تظهر بلون واحد مجرد إنما تأخذ حلولا تشكيلية بسيطة تظهر لنا بعضا من العناصر المعمارية – وعناصر الأثاث المختلفة أيضا – كالعقود والأبواب والقباب والمآذن وبعض الأعمدة والستائر إضافة إلى مناضد صغيرة، وغيرها من العناصر التي ترمز بشكل أو بآخر لأمكنة تحوي هذه الأحداث. إن إضافة الشخوص نجدها تحفل بكثير من المفردات والعناصر الأخرى كالقلوب والزهور والفاكهة والشموع والطيور والأسماك إضافة إلى المراكب والأهلة والأجنحة وغيرها من العناصر التي يستوجب وجودها في السياق التصويري المطروح الذي يعبر ببلاغة عن حالات الوجد وألوانه بين الأنثى التواقة والذكر الراغب، وهما القائمان بالفعل الرئيسي داخل اللوحة فنجد أنهما يتشابكان مع بعضهما بعضا ويتوحدان ويحتوي كل منهما الآخر وحولهما تظهر في الإطارات الخارجية الشخوص المرسومة وحول هذه الإطارات الخارجية تلتف الشخوص الواقعية الحية المتلقية لتلك الخطابات البصرية والمشاركة أيضا في إبداع معنا شامل لها في ذات الوقت. وعبر كثير من اللوحات الحمر ينجح سعد علي في إبراز جمال الأنثى الفاتنة التي تظل ثمارها الغضة محفزة على القيام بفعل الجني النبيل في تلك اللوحات البديعة التي هي في الأساس أناشيد للرغبة الكامنة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صحيفة الزمان، 6/5/ 2006

السيرة الذاتية
ـ ولد بالعراق عام (1953) بمدينة الديوانية.
ـ درس الفن في السنوات الأولى بمدينة الديوانية على يد الفنان “جاسم فرحان” وهو من عائلة فنية معروفة في الديوانية. وفي مرحلتي الدراسة المتوسطة والثانوية على يد الفنان “كاظم السهيل” الذي يُعَدُ فنان المدينة في ذلك الوقت.
ـ أسس جماعة الخط مع مجموعة من الفنانين بمدينة الديوانية هم كل من “بشير مهدي، سامي غافل، فارس خنطيل، نعمة الموسوي، أسامة ختلان”.
ـ عمل بين عامي 1972 ـ 1977 في مرسم الفنان هاشم الورد بمدينة الكاظمية في بغداد ودرس على يد الفنان إسماعيل الشيخلي حين كان مدرسا في أكاديمية الفنون الجميلة في العاصمة بغداد.
ـ عمل مصمم من عام 1974 إلى عام 1976 بمدينة الكاظمية
ـ درس الفن في أكاديمية الفنون الجميلة في بيروجة وفلورنسا الإيطاليتين عام 1980 ـ 1984 على يد الفنان فيرّو “Fero”
ـ أسس أستوديو الرسم في مدينة فلورنسا الإيطالية 1980 ـ 1984 .
ـ عمل في أستوديو “بن لون” و” وانيكَوني” بشارع الفنانين بفلورنسا عام 1982 .
ـ أسس جماعة “Tei ” بمدينة أوتريخت الهولندية عام 1985 ـ 1995 ، ويملك مرسماً فيها حتى اليوم.
ـ أسس مع زوجته “يوكا فريما” مرسم الفن بمدينة فلورنسا الإيطالية.
ـ يمتلك مرسما في جنوب فرنسا منذ عام 1998 يتردد عليه باستمرار .
ـ انتقل إلى أسبانيا عام 2004 حيث يعيش ويعمل في مدينة فالينسا.
ـ عمل مع مؤسسة “كوبرى” الهولندية ومؤسسة “أيرك براون” للفنون بالبرتغال ومؤسسة “فيرا أرت Arts Fera ” للفنون العالمية.
ـ عضو في تجمع كوبرى الهولندية، عضو نقابة الفنانين الهولنديين، عضو جمعية التشكيليين العراقيين، عضو جمعية التشكيليين الأسبان، عضو جمعية التشكيليين العرب،

أعمال في المتاحف وأعمال خاصة ومقتنيات :

ـ للفنان أعمال في قاعة الفن الحديث ببغداد “كولبنكيان” عام 1975.
ـ له أعمال مقتنيات في قاعة جمعية التشكيليين العراقيين ببغداد.
ـ له أعمال بالمكتبة المركزية بمدينة الديوانية ـ عراق .
ـ له أعمال مقتنيات لعائلة الوردي بمدينة الكاظمية في بغداد.
ـ له جدارية في نادي ومطعم بابل في بغداد ـ العراق.
ـ له أعمال في المركز الثقافي العربي بدمشق ـ سوريا .
ـ له أعمال في المركز الثقافي “Le Lame “” في مدينة فلورنسا ـ إيطاليا.
ـ له أعمال في المركز الثقافي الإيطالي بميلانو.
ـ له أعمال في كَاليري “Donatell ” ـ viadelorupia ـ فلورنسا ـ إيطالي.
ـ له أعمال في بيت الثقافة الألماني بمدينة فلورنسا الإيطالية.
ـ له أعمال في متحف Streek Muzeum “ “Ziel ـ جنوب هولندة.
ـ له أعمال في ألومبيا موسكو ” Rusia Olympiahal Moscu.
ـ له أعمال في مدرسة الصحفيين العالمي بمدينة أوتريخت الهولندية ” .S.O .L” .
ـ له جدارية عن سفينة نوح في مدينة دنهاخ الهولندية “Den Haag ” .
ـ له فيريا قي مهرجان الفنون ببلجيكا ” Genyt “.
ـ مقتنيات السيدة ” Elisabet don Biekan ” ـ أمستردام
ـ مقتنيات كوبرى كَـاليري ـ أمستردام .
ـ مقتنيات ” Salon Rouge ” ـ أمستردام ـ هولندة.
ـ مقتنيات ” 2000Kunstlijk أمستردام.
ـ مقتنيات كَاليري ” Jan van Munster ” أمستردام.
ـ مقتنيات كَاليري ” Xenia ” أمستردام.
ـ مقتنيات السيدة ” Marijke Raaymakoers ” هولندة.
ـ مقتنيات كَاليري ” Lescale ” بروكسل ـ بلجيكا.
ـ مقتنيات كَاليري ” Husets ” كوبنهاكَن ـ دنمارك .
ـ مقتنيات ” France – Maus Verzendaal”.
ـ مقتنيات كوفة كَاليري ـ لندن ـ انكَلتره.
ـ مقتنيات في المركز الثقافي العرابي بالعاصمة بروكسل ـ بلجيكا .
ـ جدارية في صالة مسرح الفنون العربي البلجيكي.
ـ مقتنيات lagos ( Eric De Braan) ـ البرتغال.
ـ مقتنيات متحف كولبنكيان لوسباوه ” Lospaua ” ـ البرتغال.
ـ مقتنيات أدارة فيريا لندن في صالة المعارض بلندن.
ـ مقتنيات مؤسسة ” Amara ” للإنشاء والتجارة ـ دبي ـ الأمارات

المعارض الشخصية

عام 2010 :
ـ كَاليري سميلك أنستوكين ” Smelik en Stoking ” في أمستردام، في شهر أبريل.
ـ فيرا آرت ، لندن
ـ فيرا آرت روتردام، هولندة
ـ معرض متنقلة في مقاطعة مدينة فالينسيا، بيوت الفن، أسبانيا.
ـ معرض في مؤسسة المهندسين بمدينة فالينسيا الأسبانية.
ـ معرض الربيع بمدينة فاروا البرتغالية.
ـ معرض في مؤسسة دبي الثقافية، الأمارات.
ـ معرض في كَاليري “تون” بفالينسيا، أسبانيا.
ـ معرض في كَاليري سميلك في مدينة دنهاخ الهولندية.
عام 2009 :
ـ معرض في كَاليري سميلك بأمستردام ، هولندة.
ـ معرض في كَاليري سميلك بمدينة روتردام الهولندية.
ـ معرض في كَاليري ” باكر” بمدينة فينلو ” Venlo ” الهولندية.
ـ معرض في كَاليري ” Lagos _ Luscotusco ” بالرتغال.
ـ معرض في آرت انترناسيونال دبي، الأمارات.
ـ معرض في كَاليري ” Maas Burgers Bergen ” بهولندة.
ـ معرض الزهور ببيروت، لبنان.
العام 2008:
ـ معرض في كَاليري سميلك ” Smelik en Stoking ” روتردام _ هولندا .
ـ معرض في كَاليري سميلك ” Smelik en Stoking ” بروتردام _ هولندا.
ـ معرض في كَاليري ليسكو فريسكو _ لاغوس _ البرتغال.
ـ فيرا آرت ، فيجو، إسبانيا.
ـ فيرا آرت، لندن، بريطانيا.
ـ فيرا آرت روتردام، هولندا.
ـ المهرجان العالمي، الإمارات العربية.
ـ مهرجان الفنون، دبي.
العام 2007:
ـ معرض بمدينة فالنيسا، إسبانيا.
ـ معرض في كَاليري سميلك ” Smelik en Stoking ” دنهاخ، هولندا.
ـ معرض في كَاليري تموز، بروكسل، بلجيكا.
ـ معرض في كَاليري ” Smelik en Stoking ” أمستردام، هولندا.
ـ معرض في كَاليري كاودي، مدريد، إسبانيا.
ـ آرت “نيم نيمس” فرنسا.
ـ بورو آرت ” Vigo ” إسبانيا.
ـ فيرا آرت لندن، بريطانيا.
العام 2006:
ـ معرض في كَاليري تورنتو، برشلونة، إسبانيا.
ـ معرض في كَاليري ” يودي ستراتن” كَروبنفورست، هولندا.
ـ فيرا آرت لندن، بريطانيا.
العام 2005:
ـ معرض في مؤسسة أراغون، مقاطعة سنتياغو
ـ فيرا آرت هولندا ، دنهاخ، هولندا.
ـ عرض في Kunst RAI أمستردام.هولندا.
ـ معرض في كَاليري ” Smelik en Stoking ” دنهاخ، هولندا.
ـ مهرجان الفن في كابيلا، أسبانيا.
العام 2004:
ـ معرض في كَالير سميلك ” Smelik en Stoking ” روتردام، هولندا.
ـ معرض في كِاليري سميلك ” Smelik en Stoking ” دنهاخ، هولندا.
ـ معرض في كَاليري الكوفة، لندن، بريطانيا.
ـ معرض في كَاليري سميلك ” Smelik en Stoking ” أمستردام، هولندا.
العام 2003:
ـ معرض في كَاليري سميلك ” Smelik en Stoking ” أمستردام، هولندا.
ـ عرض في Kunst RAI أمستردام.
ـ فيرا آرت لندن، بريطانيا.
ـ فيرا آرت روتردام، هولندا.
ـ فيرا آرت هولندا، دنهاخ، هولندا.
العام 2002:
ـ المشاركة في Kunst RAI أمستردام. هولندا.
ـ معرض في كَاليري ” Marijke Raaymakoers ” هولندا.
ـ فيرا آرت Gent ، بلجيكا.
ـ فيرا آرت ” فين لينت” دنهاخ، هولندا.
ـ مشاركة في المعرض الثقافي، فرنسا.
العام 2001:
ـ المشاركة في Kunst RAI أمستردام. هولندا.
العام 2000:
ـ المشاركة في Kunst RAI أمستردام. هولندا.
ـ معرض في كَاليري ” Marijke Raaymakoers ” هولندا.
العام 1999:
ـ معرض في كَاليري الكوفة، لندن، بريطانيا.
ـ معرض في كَاليري سميلك ” Smelik en Stoking ” دنهاخ، هولندا.
ـ معرض في كَاليري هوست، كوبنهاغن، الدنمارك.
ـ معرض في كَاليري ” Elisabet don Biekan ” أمستردام، هولندا.
ـ معرض في كَاليري ” ” Marijke Raaymakoers ” هولندا.
ـ معرض في كَاليري “الكوفة” لندن، بريطانيا.
العام 1998:
ـ معرض في كَاليري سميلك ” Smelik en Stoking ” دنهاخ، هولندا.
ـ المشاركة في Kunst RAI أمستردام. هولندا.
ـ معرض في كَاليري ” De Compagnie” دورتريخت، هولندا.
العام 1997:
ـ معرض في كَاليري ” Elisabet don Biekan ” أمستردام، هولندا.
ـ المشاركة في Kunst RAI أمستردام. هولندا.
ـ معرض في كَاليري “الكوفة” لندن، بريطانيا.
العام 1996:
ـ معرض في كَاليري “يان فان مونستر” دنهاخ، هولندا.
ـ المشاركة في Kunst RAI أمستردام. هولندا.
العام 1995
ـ معرض في كَاليري ” Elisabet don Biekan ” أمستردام، هولندا.
ـ فيرا الفن الهولندي بمدينة دنهاخ، هولندا.
العام 1994:
ـ معرض في كَاليري “يان فان مونستر” دنهاخ، هولندا.
ـ معرض في كَاليري ” ماري يوسي هيرين” فلوتن، هولندا.
ـ معرض في كَاليري ” Elisabet don Biekan ” أمستردام، هولندا.
العام 1993:
ـ معرض في كَاليري ” إنتر هايسفيك ” دينتر، هولندا.
ـ معرض في كَاليري ” ماري يوسي هيرين” فلوتن، هولندا.
ـ معرض في كَاليري ” Elisabet don Biekan ” أمستردام، هولندا.
ـ معرض في كَاليري تموز، بروكسل، بلجيكا.
ـ معرض في كَاليري ” ” Marijke Raaymakoers ” هولندا.
ـ معرض في كَاليري “يان فان مونستر” دنهاخ، هولندا.
العام 1992:
ـ معرض في كَاليري ” Husets ” كوبنهاغن، الدنمارك.
ـ معرض في كَاليري ” Xenia Overasselt ” هولندا.
ـ معرض في كَاليري ” L Escale ” ، بروكسل، بلجيكا.
العام 1991
ـ معرض في مطار أمستردام الدولي _ Schipol _ بعنوان ” غناء وطيور” .
العام 1990:
ـ معرض شخصي في متحف مدينة ” Tiel ” الهولندية .
ـ معرض في Rusia Olympiahal Moscu ، روسيا.
ـ فيرا آرت بيروت، لبنان.
العام 1989:
ـ معرض شخصي في المركز الثقافي ببروكسل بعنوان “أبواب الفرج” ، بلجيكا.
ـ معرض في Rusia Olympiahal Moscu ، روسيا.
ـ معرض شخصي في كَاليري ” Traject ” أوتريخت، هولندا.
ـ فيرا آرت ” Gent ” بلجيكا.
العام 1988:
ـ معرض في كَاليري الفن بمدينة ” Badhoevendorp ” الهولندية.
ـ فيرا آرت ” Gent ” بلجيكا.
العام 1987:
ـ School voor Jounalistiek ، مشاركة في بمدينة أوتريخت، هولندا.
العام 1984:
ـ معرض في كَاليري ” Donatello ” فلورنسا، إيطاليا.
العام 1976:
ـ أول معرض للفنان في المركز الثقافي العراقي بالكاظمية، بغداد، وقد افتتحه وزير الأشغال والإسكان في ذلك الوقت.

أفلام وثائقية عن الفنان :
ـ فلم “ألأوان العشق في لوحات سعد علي” للمخرج الهولندي carlos Vamos (32 دقيقة ) عام 2009.
ـ فلم ” رغبة القط” للمخرج (خوسيه) نُفذ لمؤسسة الفنون والتصوير بأسبانيا ( & دقائق) عام 2009 .
ـ فلم “المختلف” للمخرج صالح كاظم ،الدنمارك، 15 دقيقة ـ عام 2008.
ـ فلم ” حوار الحب” نُفذ لقناة TV1 Madrid J Espane الأسبانية عام 2007.
ـ فلم “البحث عن مفردات سعد علي” للمخرج Fekkedeyager ـ 30 دقيقة ـ بفرنسا عام 2004.
ـ فلم “دائرة البحث” للمخرج خوسيي في صالة الفنون بفالنسيا الأسبانية ـ 12 دقيقة ـ عام 2005.

ـ فلم ” في مرسمه بأوتريخت” للمخرج Jahad Abo Sliman نُفذ لتلفزيون أمستردام، القناة الأولى ـ 20 دقيقة ـ عام 1995.
ـ فلم ” سعد علي” بكَاليري الكوفة بلندن، نُفذ لقناة MBC بلندن ـ 10 دقائق ـ عام 1995.
ـ حوار مع فنان في قناة MBC بلندن ـ 10 دقائق ـ عام 1995.
ـ فلم ” حكاية فنان” بأونريخت الهولندية، تلفزيون أوتريخت ـ 10 دقائق ـ عام 1994.

المعارض العالمية، بينالة، فيريا :
ـ Kunst RAI أمستردام عام 2009.
ـ مهرجان فنون الشرق بلندن ـ انكلترا ـ عام 2008.
ـ مهرجان ليسبوى البرتغالية عام 2008.
ـ مهرجان الفنون، مؤسسة دني للفنون، الأمارات، عام 2007.
ـ مهرجان الفنون، بيروت ـ لبنان ـ عام 2006.
ـ Kunst RAI أمستردام ـ هولندة ، عام 2004.
ـ مهرجان الشعوب بميلان Milana الإيطالية عام 2003.
ـ معرض دولي بمدينة روتردام الهولندية ” ART Fier ” عام 2002.
ـ Kunst RAI أمستردام عام 2002.
ـ مهرجان ماسترخت الدولي ” MEK ” عام 2002.
ـ مهرجان بروكسل الدولي عنا 2001.
ـ فيرا “Gent” للفنون ببيلجكا عام 2001.
ـ مهرجا السلام الدولي بكوبنهاغن ـ الدنمارك ، عام 2000.
ـ المعرض الدولي بأمستردام ” PAN ” بهولندة عام 2000.
ـ معرض الكَرافيك بيوغسلافيا عام 1999.
ـ Kunst RAI أمستردام عام 1998.
ـ مهرجان الشعوب بموسكو ” Olympisal Moskou” عام 1998.
ـ فيرا ” Basel ” للفن الدولي عام 1997.
ـ المعرض الدولي بأمستردام ” PAN ” هولندة، عام 1996.
ـ المعرض الدولي ببروكسل ” Olympi Art ” عام 1996.
ـ المعرض الدولي للشعوب لاكويت عام 1996.
ـ المعرض الدولي ببلجيكا ” Ostende ” عام 1996.
ـ 4 Kunst RAI أمستردام عام 1995.
ـ المعرض الدولي بأمستردام ” PAN ” هولندة، عام 1995.
ـ معرض الفن الدولي ” MEK ” في ماسريخت عام 1994.
ـ معرض الفن الدولي ” Jaar Beurs ” بأوتريخت الهولندية عام 1993.
ـ مهرجان الشعوب بموسكو ” Olymphishal Moscu ” عام 1989.

كتلوكات وكتب فنية :

ـ كتلوك عن معرض الإنتاجية في قاعة الفن الحديث ببغداد عام 1976.
ـ كتلوك “تل الزعتر” في قاعة الفن الحديث ببغداد، كولبنكيان، عام 1977.
ـ كتلوك جمعية التشكيليين العراقيين ببغداد بمناسبة التأسيس.
ـ كتلوك قصر الفنون بروما “بالتكولفا” للفنانين العراقيين، إيطاليا، عام 1078.
ـ كتلوك قصر الفنون بميلانو الإيطالية عن الفنانين العراقيين بالمنفى عام 1980.
ـ كتلوك قصر الفلكلور بروما الإيطالية عن الفن العراقي.
ـ كتلوك عن المعرض الشخصي في قاعة “دوناتكوا” بمدينة فلورنسا.
ـ كتلوك عن المعرض العالمي للكّرافيك بيوغسلافيا.
ـ كتلوك عن معرض الفنانين العرب بتونس عام 1988.
ـ كتلوك عن معرض الفنانين العراب في الدار البيضاء بالمغرب عام 1998.
ـ كتاب عن بينالة موسكو للفنون عام 1990، روسيا.
ـ كتاب عن فيريا ” Kunst RAI ” أمستردام للأعوام 1985، 1988، 1990، 1995.
ـ كتاب عن مهرجان الفنون بأمستردام الهولندية ” PAN ” للأعوام 1990، 1995.
ـ كتاب عن معرض سميلك بدنهاخ الهولندية ” Smelik en Stoking”.
ـ كتاب عن الفن العربي، دبي، الأمارات.
ـ كتاب عن الفن العرابي، الكويت.
ـ كتاب عن مهرجان بينالة الشارقة، الأمارات.
ـ كتاب عن الفن العراقي للكاتب موسى الخميسي.
ـ كتاب عن الفن العراقي عن المركز الثقافي العربي ببروكسل.
ـ كتاب صادر عن مؤسسة دبي الثقافية، الأمارات.
ـ كتاب متنوع للفنان عام 1999.
ـ كتاب ” فن العلاقة” للناقد ياسين النصير عن دار المدى للثقافة.
ـ كتاب عن الفنانين الهولنديين عام 1999 .
الفهرست

ـ المقدمة، نصير عواد
ـ مقابل المعطى الوجودي، إسماعيل زاير
ـ سعد علي حارس بوابة الجنة، Bert Houders
ـ طقوس ورموز الخصب والحياة بين الرافدين، حامد الهيتي
ـ الباب مُحرّض لكشف المكنون، محمد حياوي
ـ بين التراث والتلقائية، نصير عواد
ـ لوحات تستهلك مفردات الفنان … وتفتح أبوابا للمخيلة، الطيب زاك
ـ سعد علي: الرجوع المستحيل إلى أسوار سومر، نجم والي
ـ نساء بعيون سومرية واسعة مثخنات بالأنوثة والخصب، عاصم عبد الأمير
ـ استعارات مستلهمة من التراث والأساطير، كريم النجار
ـ لوحات ونصوص تحتفل بالمعاناة الذاتية في خصوصيتها وتحولاتها، عمر شبانة
ـ كائنات حُلمية تستحم بمطهر الحب المتساقط من الأعالي، عدنان حسين أحمد
ـ الغجري المتفائل، معرض الفنان سعد علي، ياسين النصيّر
ـ سعد علي فنان ديكور عذب، موسى الخميسي
ـ عذوبة المعنى ونظارة التشكيل، محمد مهدي حميدة
ـ السيرة الذاتية للفنان